Sunday, July 18, 2010

عوض الدوخي وأ م كلثوم
Duet
Solo1
كوكب الشرق أم كلثوم
الحـــلم
بيرم التونسي ــ زكرياأاحمد
ـ حبيب قلبي ـ وفاني في معاده و نوّلْ بعد ما طـَــوّلْ بـِعادُه ـ حبيب قلبي وفاني ـ حبيب قلبي
قابلني وهو متبسم ـ وطمني على وصله ـ وقالي بعد ما سلم ـ كلام القلب يرقص له
بقى يقولي وأنا أقوله ـ يقولي قلبي بيودك ـ أقوله قلبي أنا اكتر ـ
يقولي أد إيه حبك؟ ـ أقوله فوق ما تتصور ـ وأقوله خايف لا تنساني
يقولي مستحيل مستحيل مستحيل أقدر

بقى يقولي وأنا أقوله ـ وخلصنا الكلام كله ـ قريب وبعيد وبقينا ـ نقول ونعيد بعنينا ـ عيون وعيون تتكلم ـ بسر القلب وترجم
وروح مع روح تتجانس ـ وأيد على أيد بتسلم ـ بتسلم كلام مشتاق لها
مشتـــــاق

Tuesday, July 6, 2010

Hamed Nasr Abu Zayd dies age 67, Cairo 5-July-2010

نصر حامد أبو زيد صديق في الضـوء
أدونيس

أستعين ببصيرة المتنبي، لأصف موت الصديق نصر حامد أبو زيد بأنه «نوع من القتل». لا غيلة. بل في الساحة العامة. في أوج المعترك. حيث تهجم القيود من كل صوب، وتتواشج، وتتآلف وتتحد. حيث تئن الحريات تحت ثقل الجراح. وتضطرب منهكة، تائهة.
صحيح ان الخروج من الساحة انحياز الى طمأنينة الحياة. غير ان الحياة هنا «مجلوبة بتطرية» السلاطين من كل نوع. صحيح كذلك ان البقاء فيها غواية في مستوى الطفولة، غير انها غواية تختزن موتاً مجلوباً بالعذاب، والحيرة، وفتنة اليأس.
بلى، صار لليأس، حتى اليأس، فتنته الخاصة في هذا الزمن الثقافي العربي الذي يسير نحو المستقبل في موكب من القشّ.
ينتمي فكر نصر حامد أبو زيد الى سلالة معرفية عربية لا تزال في بدايات نشوئها. في التأسيس لهذه البدايات، اختلفنا حيناً، واتفقنا غالباً. بيني وبينه وحدة في الطريق، وتباين في الخطوات. صديق في الضوء، ومنافس في الطريقة التي نشعل بها القناديل. كان أكثر ميلاً مني الى أن يتسق، وكنت ولا أزال أكثر ميلاً الى أن أخترق. ما يولّد «الانسجام»، لا يقدم إلا مشهداً، خاوياً في الأغلب الأعم، كما علّمتنا التجارب. الأساس هو ما يتوهّج داخل الرأس، فهو وحده الذي يخلق ويبني. لا يقاس الفضاء بالثوب الذي يرتديه، وإنما يقاس بالضوء الذي فيه.
يكفي أن نقلّب من تاريخ العقل عند العرب بضع أوراق لكي نلحظ خواء «الانسجام» ـ خواء «المشهد» و«المنظر» في فضاء هذا التاريخ، الحاضر، بخاصة، ولكي ندرك الهوة الساحقة السحيقة التي يقودنا نحوها هذا الحاضر العربي «المنسجم». يكفي لكي ندرك أيضاً ان هذا الصديق الذي يفارقنا. عقدة متينة في الحبل الذي نمسك به لكي لا نسقط نهائياً. عقدة البحث الذي يرجُّ المسلمات واليقينيات، ويقذف بنا في فضاء المعرفة، وبهاء الكشوفات. عقدة السؤال الذي يحررنا من الأجوبة السائدة والتي لم تعد إلا طبولاً لغوية، ويفتح أمامنا أفق المعنى.
توفي المفكر المصري نصر حامد أبو زيد أمس في مستشفى مدينة 6 أكتوبر غربي القاهرة، عن 67 عاماً، بعد صراع مع مرض غامض

نصـر حامـد أبـو زيـد بطـل التمـرد والنضـال الفكـري والحريـة حتـى المـوت
كانت وفاة نصر حامد أبو زيد في مصر البلد الذي خرج منه طريداً منبوذاً ويستقبله ميتاً. رفضه حياً ويسترده جسداً هامداً. الحُرم الذي ضرب على نصر حامد أبو زيد لم يكن أقل من إعدام. حكم التطليق لا يخرجه من الدين ولكن أيضاً من الإنسانية، إنه تجريد من حقوقه

Tuesday, October 30, 2007

al-Mu'tamid 1040-1095

al-Mu'tamid 1040-1095

Poet King of Seville

As I was passing by,
A vine, its tendrils tugged my sleeve,
'Do you design' Said I,
'My body so to grieve?'

'Why do you pass', the vine
replied, 'and never greeting make?'
It took this blood of mine
your thirsting bones to slake'.

***************************

Sweet night of joyous merriment
Beside the swerving stream I spent,
Beside the maid about whose wrist
so sweetly swerved her bracelet's twist:

She loosed her robe, that I might see
Her body, lissome as a tree
The calyx opened in that hour

And oh, the beauty of my flower!

Tuesday, May 22, 2007

محمد أركون

الفكر الإسلامي فكر واجتهاده

More...Hamed Nasser Abu Zaid نصر حامد أبوزيد

القاهرة تمنع الخطاب والتأويل

لنصر حامد أبو زيد

الثقافة تُقتَل على يد الظَّلامية والنفط

محمد علي الأتاسي

لم يكن يكفي الثقافةَ العربية عارُ إبعاد نصر حامد أبو زيد عن التدريس في الجامعة المصرية وإصدارُ حكم قضائي بتكفيره وتفريقه عن زوجته ابتهال يونس في منتصف التسعينات من القرن المنصرم، ولا أن يبقى الأستاذُ الجامعي منذ ذلك التاريخ منفيًّا في جامعات هولندا، وأن يستمر غيابُ كتبه عن رفوف مكتبة جامعة القاهرة، وأن تعجز أية جامعة عربية عن استقباله عضوًا في كادرها التدريسي أو محاضِرًا على مدرَّجاتها. لا، لم يكفِ هذا العار كلُّه للنيل من نصر حامد أبو زيد، الإنسان والمفكر، فخرجوا علينا في نهاية الشهر المنصرم بقرار جديد أصدره "مجمع البحوث الإسلامية" – وهو أعلى سلطة في الأزهر – يقضي بمنع تداول كتاب الخطاب والتأويل لأبو زيد في مصر ومصادرة ما وُزِّع من نُسَخِه في الأسواق.

نشرت مجلة المصور المصرية بتاريخ 27/11/2003 أن "مجمع البحوث الإسلامية" اجتمع في رئاسة مفتي الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي وناقش تقريرًا عن الكتاب وضعه عضو المجمع محمد عمارة، وأصدر قرارًا جاء فيه أن أبو زيد "طعن في ثابتين من ثوابت العقيدة الإسلامية، وهما التوحيد وحفظ القرآن الكريم، الأمر الذي يمنع تداوله لطعنه في صحيح العقيدة الإسلامية".

وقال عضو المجمع عبد المعطي البيومي، المعيَّن في مجلس الشعب المصري، لجريدة الحياة (27/11/2003) إن الأزهر "لا يصادر حرية الفكر أو الإبداع، وإنما يحمي ثوابت المجتمع من أي انحرافات فكرية تهدد عقيدة المجتمع وثقافته". وطالب السلطات بـ"تنفيذ كلِّ التوصيات التي يُصدِرُها المجمع في شأن مصادرة الكتب التي فيها انحرافات فكرية، وذلك حماية لشبابنا من الأفكار الدخيلة"، في إشارة منه إلى كون توصيات المجمع والأزهر في منع تداول الكتب لا تدخل حيِّز التنفيذ من دون حكم قضائي صادر عن المحاكم المصرية.

المضحك–المبكي في هذا الخبر الذي تناقلتْه وكالات الأنباء وأفردتْ له مجلة المصور المصرية وجريدة الحياة اللندنية مكان الصدارة، أنه يتجاهل ليس فقط سؤال نصر حامد أبو زيد عن رأيه في قرار منع تداول الكتاب، لكنه يتجاهل أيضًا – وهنا الطامة الكبرى! – مضمون الكتاب والموضوعات التي احتوتها دفتاه. فكتاب الخطاب والتأويل، الصادر في العام 2000 عن "المركز الثقافي العربي" (بيروت – الدار البيضاء)، يخص د. محمد عمارة، عضو مجمع البحوث الإسلامية وكاتب التقرير–الفضيحة، بمساحة واسعة من النقد. فهو يكرِّس فصلاً كاملاً، تحت عنوان "موقف عمارة من علي عبد الرازق: غلبة الإيديولوجي على المعرفي"، مخصَّصًا للنقد اللاذع والعميق لتهويمات د. محمد عمارة الفكرية في موقفه المتذبذب والمتبدل 180 درجة من كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم. كما أن أبو زيد يخصِّص جزءًا أساسيًا من مقدمة كتابه هذا لتحليل الأسلوب الخطابي الاستعراضي المتوشِّح بعباءة الدين الذي يلجأ إليه محمد عمارة في البرامج التلفزيونية. ويروي أبو زيد كيف كان هو أحد شهوده في برنامج "الاتجاه المعاكس" على قناة الجزيرة القَطَرية الذي جمعه إلى عمارة بتاريخ 31 كانون الأول 1996. يُضاف إلى هذا كلِّه أن الجزء الثاني من الفصل، المكرَّس لفكر زكي نجيب محمود في الكتاب، يخصِّصه أبو زيد للردِّ على تجنِّيات محمد عمارة على زكي نجيب محمود؛ وهو يحمل العنوان الفرعي الآتي: "مات الرجل وبدأت محاكمته".

وقبل الخوض في تفاصيل هذا الكتاب الذي جرَّ على صاحبه، ظلمًا وبهتانًا، تهمة الطعن بـ"ثابتين من ثوابت العقيدة الإسلامية، هما التوحيد وحفظ القرآن الكريم"، بحسب ما جاء في قرار الأزهر، يجدر التوقف مليًّا أمام العِبرة في أن يكون محمد عمارة هو رأس حربة المؤسَّسة الأزهرية في هذه المعركة–الفضيحة.

الوشاية

د. محمد عمارة ليس بالشيخ المعمَّم؛ وهو ينتمي إلى تلك الفئة من الباحثين في الفكر الإسلامي الذين بدأوا حياتهم بالترويج لما يسمُّونه "اليسار الإسلامي" وبتحقيق بعض الكتب النهضوية، قبل أن ينتقل إلى الموقع النقيض ويصبح من أشد المعادين لفكر النهضة التنويري ومن أهم المطالبين بعودة دولة الخلافة الإسلامية. محمد عمارة لا ينتمي إذًا إلى فئة رجال الدين، ويجمعه مع نصر حامد أبو زيد، مع حفظ المنزلة والمكانة، الانتماء إلى حقل الدراسات الإسلامية. وكان يمكن للرجل أن يحتكم إلى القلم والكلمة في صراع الأفكار الذي جمعه، منذ زمن طويل، مع نصر حامد أبو زيد، لكنه فضَّل أن يقتصَّ من زميله الأستاذ الجامعي الذي شرَّح أفكاره وبيَّن سقطاته، من طريق اللجوء إلى سلطة المؤسَّسة الدينية وجرِّ الأزهر وشيخه إلى محكمة تفتيش جديدة، أُريدَ لها أن تنال من أحد أهمِّ رموز الفكر التنويري في الدراسات الإسلامية. والسبب ليس لأنه "طعن في ثابتين من ثوابت العقيدة الإسلامية"، كما يدَّعون، ولكن لكونه طعن في الأمانة العلمية للدكتور محمد عمارة، وبيَّن، بالدلائل والشواهد النصية المستقاة من كتابات عمارة، انعدام الصدقية ومقدار التحريف في الاقتباسات التي لجأ إليها عمارة في هجومه على كلٍّ من الشيخ علي عبد الرازق وزكي نجيب محمود.

نحن أمام حالة مفجعة من الانهيار الفكري والأخلاقي: أستاذ جامعي يسوق زميلاً له إلى محكمة تفتيش أزهرية تدينه بطعن "صحيح العقيدة الإسلامية" – هذا في وقت لم يقم أبو زيد بشيء آخر إلا كشف الأكاذيب التي تحتويها كتابات محمد عمارة. وإذا وضعنا جانبًا السؤال المركزي المتعلق بأحقية الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية في تقرير أيٍّ من الكتب يحتوي "انحرافات فكرية"، وتاليًا يجب منعه "حماية لشبابنا من الأفكار الدخيلة"، على ما يذهب إليه العضو الآخر في المجمع د. عبد المعطي بيومي، فإن السؤال كيف يقبل الأزهر وشيخه أن يكون كاتب التقرير في حقِّ كتاب الخطاب والتأويل، هو نفسه، بأفكاره وشطحاته، موضوع الكتاب المُدان؟ وأية صدقية يمكن أن يحملها مثل هذا التقرير عندما يكون كاتبُه هو الخصم والحكم في الوقت نفسه؟

لقد سبق للأستاذ الجامعي عبد الصبور شاهين، في معركته الدنيوية البحتة لمنع ترقِّي نصر حامد أبو زيد، عدوِّه الفكري اللدود وزميله في الجامعة، إلى رتبة أستاذ، أن لجأ إلى الأسلوب نفسه، متَّهمًا أبحاث أبو زيد بالخروج على ثوابت الدين والعقيدة. والجميع يعرف كيف انتهت هذه المعركة، ليس فقط بتجميد ترقِّي أبو زيد في الجامعة وتكفير مجلسها له، ولكن أيضًا بانتقال المعركة من الجامعة إلى المحاكم المصرية التي حكمت عليه بالردة وبالتفريق عن زوجته.

اليوم، وبعد سبع سنوات من هذه الفضيحة، نحن أمام حالة مشابهة، يلجأ فيها أستاذ جامعي هو محمد عمارة إلى تصفية حسابات شخصية ودنيوية مع زميله أبو زيد، من خلال إقحام أعلى مؤسَّسة دينية في مصر في هذه المعركة الدنيوية بامتياز. وفي هذا ليس فقط إساءة إلى المكانة الدينية والروحية للأزهر وشيخه ومجمع بحوثه، ولكن فيه أيضًا تبيان واضح لحجم الرهانات الشخصية والمؤسَّساتية والاجتماعية التي تتلبَّس بعباءة الدين في سبيل تحقيق رهانات دنيوية بحتة.

الكتاب المُدان

لا يمكن فصل معركة الأزهر الجديدة مع كتاب الخطاب والتأويل عن سياق معركة منع أبو زيد من التدريس في الجامعة، التي بدأت في آذار من العام 1993 وانتهى أول فصولها بقرار أصدرته محكمة الأحوال الشخصية القاهرية في 14 حزيران 1995 بردة أبو زيد وبتفريقه عن زوجته، وأيَّدتْه محكمة النقض في 5 آب 1996.

المعركة إذًا لم تنتهِ فصولُها بعد. أما الكتاب المُدان فإن أبو زيد كتب معظم فصوله في زمن الاغتراب، بعد تموز 1995، وأقلها كَتَبَ قبل ذلك، ولكن دائمًا في سياق "حرب التكفير" التي بدأت ضده من داخل الجامعة. وبرغم النبرة السجالية التي تسود بعض مقاطع الكتاب فإن أبو زيد خصَّص معظم فصول كتابه لعلم "تحليل الخطاب"، نظريًّا وتطبيقيًّا، مبيِّنًا، من خلال أمثلة ملموسة، كيف تتبادل الخطاباتُ التأثيرَ والتأثُّرَ بعضها مع البعض الآخر. ويحدث ذلك "مهما تباعدت منطلقاتُها الفكرية وتناقضت آلياتُها التعبيرية والأسلوبية، ومهما اختلف نسقها السردي بين الوعظية الإنشائية في جانب والتوتر المعرفي في جانب آخر" (الخطاب والتأويل، ص5).

تتحرك فصول القسم الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان "المثقف العربي والسلطة" بين الخطاب التراثي وخطاب التنوير، وتعقد مقارنات ثرية بين نقيضين هما ابن رشد والغزالي، وتبيِّن علاقات التناصِّ والتأثير والتأثُّر المتبادل بين خطابَيْ هذين المفكرين. يعالج أبو زيد في هذا الجزء من الكتاب الخطاب التنويري لزكي نجيب محمود، ويبيِّن كيف تأثرتْ أدواتُه التعبيرية وجهازُه المفاهيمي ومقاربتُه التحليلية بأدوات خصومه وآلياتهم. ويعرِّج أبو زيد على المحاكمة التي أجراها محمد عمارة لفكر زكي نجيب محمود، ويبيِّن كيف أن همَّ عمارة الأول كان اغتيال زكي نجيب محمود فكريًّا بإخراجه من دائرة الإسلام، متوخيًا في ذلك اللغة الاتهامية، بعيدًا عن أية دقة علمية. يقول أبو زيد في هذا السياق: "هناك فارق بين النقد والاختلاف وبين الإدانة، ونزع صفة الإسلام عن المفكر لأنه ينتج فكرًا لا يتطابق مع ما نؤمن به من أفكار. لقد حاول الكاتب [عمارة] أن ينقد الوضعية المنطقية [لدى زكي نجيب محمود]، لكن نقده لها هو النقد العامي المبتذل، وليس النقد العلمي." (مرجع سابق، ص86)

والمفجع أن أبو زيد كتب في هذا الفصل سطورًا كان يجدر بها أن تكون الردَّ القاطع على كلِّ من يتهمه بالطعن بثابت التوحيد من العقيدة الإسلامية؛ ولكنهم لا يقرأون، أو هم لا يريدون أن يقرأوا. يقول أبو زيد: "حين نقول اختلاف العقائد فإنما المقصود اختلاف التصورات حول العقيدة. عقيدة التوحيد مثلاً كثرت التصورات حولها بين الفِرَق." (مرجع سابق، ص86) ويضيف أبو زيد الآتي: "أول شروط الحوار: التخلِّي عن تصور امتلاك الحقيقة والاستئثار بالحديث عن الإسلام. فكلنا مسلمون بداهة، وإسلامنا هو الأصل الذي لا يحتاج لبرهان." (مرجع سابق، ص87)

في الفصل الثالث يعرض أبو زيد لسعي عمارة إلى "تلويث خطاب النهضة" في انقلابه من إطار خطاب للاندماج في نمط خطاب آخر يعلن فيه توبته من الاحتفالية التي تَعامَل بها في الماضي مع كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم، ويحاول جاهدًا "أن يبرِّئ علي عبد الرازق من جريمة تأليف الكتاب ليلصقها – على طريقة شرلوك هولمز وأغاثا كريستي – بطه حسين". إن وصف أبو زيد لمنهج عمارة مع كتاب عبد الرازق بالأسلوب البوليسي ليس فيه شيء من المبالغة أو التجنِّي. فأبو زيد يبيِّن، بالأدلة القطعية، مقدار الأكاذيب والألاعيب التي لجأ إليها محمد عمارة في مسعاه لإثبات براءة علي عبد الرازق من الكتاب ونسبته إلى طه حسين. ونكتفي بإيراد أحد الأمثلة الفاقعة التي يقدمها أبو زيد دليلاً على نقص الأمانة الفكرية لمحمد عمارة في تناوله المزعوم لردَّة علي عبد الرازق عن كتاب الإسلام وأصول الحكم. فمحمد عمارة، في محاولته العابثة لتقويل علي عبد الرازق ما لم يقله، يجتزئ من نصِّ المحاضرة التي ألقاها الشيخ عبد الرازق في الجامعة الأمريكية في القاهرة في آذار 1932 العبارة الآتية: "الحكم بغير ما أنزل الله كفر صريح في القرآن." لكن، بالعودة إلى نصِّ المحاضرة، ينكشف – كما يبيِّن أبو زيد – تدليس عمارة، وهو "التدليس الذي يفضح سوء القصد والنية المبيَّتة لتلويث سمعة الشيخ وكتابه" (مرجع سابق، ص 95). فعبد الرازق يحاول في محاضرة "الدين وأثره في حضارة مصر الحديثة" أن يستعرض مظاهر التغير والتطور في الحياة المصرية، وخصوصًا بعد احتكاكها بالحضارة الأوروبية الحديثة. وفي هذا السياق تَرِدُ العبارة السابقة لوصف ما كانت عليه الحال في مصر قبل لقائها الأخير بالغرب. يقول الشيخ عبد الرازق: "جرت مصر منذ العصور الأولى على أن يكون الحكم فيها شرعيًّا، يرجع إلى أحكام الإسلام والأوضاع الإسلامية. وكان المصريون يفزعون من أن يحتكموا إلى غير قوانين الإسلام، لأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر صريح في القرآن. ولكن القوانين قد أصبحت في مصر تؤخذ أحيانًا من قوانين أوروبا، ولا يرى المصريون حرجًا في أن يحتكموا إليها، ولا أن يخضعوا لها، أوافقتْ الفقه الإسلامي أم لم توافقه. ومن قبل ذلك استطاع الخديوي إسماعيل باشا أن يضرب على المصريين قانون نابوليون شريعةً لازمة ويأخذهم بأحكامها أخذًا. وما كان ذلك كلُّه إلا خضوعها لما أسلفنا من حكم الظروف الاجتماعية والتطورات التي نشأت مع الحضارة الجديدة والجيل الجديد."

يبيِّن أبو زيد في هذا الفصل، بأمثلة لا يتسع المجال لذكرها مجتمعة، مقدار الهزل الأكاديمي وانعدام الصدقية العلمية في تناول محمد عمارة لفكر علي عبد الرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم. وبدلاً من أن تكون براهين أبو زيد حجة تُقام على صدقية محمد عمارة الفكرية، قام هذا الأخير بتوريط الأزهر في معركة أرادها هو تصفيةً لحسابات شخصية تتلطَّى تحت عباءة الدين، في حين أرادها أبو زيد معركةً فكرية تخدم الحقيقة وتمنع الانتهازيين من استخدام الدين لمآربهم الشخصية.

في العودة إلى فصول الكتاب المُدان، بحثًا عن أيِّ دليل يثبت ما ذهب إليه الأزهر من طعن أبو زيد في ثوابت العقيدة الإسلامية، لا يجد القارئ إلا فكرًا عقلانيًّا يحاول، من داخل دائرة الإسلام، أن يطرح الأسئلة الصعبة المسكوت عنها في الخطاب الإسلامي التراثي والمعاصر. ففي الفصل الرابع يبيِّن أبو زيد "الترضيات الضمنية" التي يلجأ إليها محمد أركون حفاظًا على موقع خطابه داخل الثقافة والفكر الإسلامي.

أما القسم الثاني من الكتاب فمخصَّص بأكمله لدراسة كيف أن معظم تيارات الفكر العربي لا تزال مسجونة داخل النفق المظلم نفسه الذي حصر سؤال "النهضة" في بُعْد "الدين" وحده. وينتهي هذا الفصل بحوار شائق وموسَّع أجراه الناشر مع أبو زيد يتناول فيه نشأته ودخوله الجامعة والمفكرين الذين أثَّروا في تكوين وعيه، متحدثًا بإسهاب عن محنته بعدما اضطر لمغادرة مصر وعن المعالم الجديدة في مشروعه الفكري.

حتى أنت يا بروتوس!

تسعة أعوام مضت على بداية محنة ابتهال يونس ونصر حامد أبو زيد، وشبح الرجل وفكرُه لا يزالان يُقلِقان الفكر الظَّلامي ويقضَّان مضاجعه. تسعة أعوام والثقافة العربية لا تزال عاجزة عن إعادة نصر حامد أبو زيد إلى عالمه العربي.

كنت أظن، لمدة طويلة، أن موقف السلطة السياسية الملتبس وتقاعس المثقفين العرب وعجزهم عن التضامن الفعلي والمؤثر مع أبو زيد من أهم الأسباب التي تسمح لهذا الوضع–الفاجعة بالاستمرار. لكن الصدفة قادتْني، وأنا أعدُّ هذا المقال، إلى مقابلة كان أجراها قبل شهور معاذ الخطيب مع الباحث اللبناني رضوان السيد في أثناء انعقاد مؤتمر الجنادرية تحت رعاية الأسرة المالكة في العربية السعودية ونَشَرَها موقع الملتقى الفكري للإبداع على الإنترنت. ما قاله الباحث رضوان السيد – الذي يدَّعي التنوير – في هذه المقابلة في حقِّ نصر حامد أبو زيد يبيِّن لي أن أكثر الطعنات إيلامًا في ظهر الأستاذ المصري لم تأتِه من الإسلاميين، بل من مدَّعي الانفتاح والتضامن الصوري معه – هذا في وقت لا يتركون مناسبة من دون أن ينالوا منه بسهامهم المسمومة، محاولين بكلِّ الوسائل النأيَ بأنفسهم عنه، وخصوصًا عندما تكون علاقتهم مع الثقافة النفطية هي على المحك. يقول رضوان السيد عن نصر حامد أبو زيد الآتي، مقارِنًا إياه بمحمد شحرور: "مسكين، إنه رجل طيب باحث عن الشهرة، فوقع في هذه الأخطاء الفظيعة، فصار يشبه شحرور، ولكن من دون أن يقصد. شحرور قاصد، شحرور يعرف أن ما يفعله إجرام وتخريب للدين، يفعل ذلك بوعي. أما نصر فقاده إلى ذلك الجدال وحبُّ الشهرة، وهو عنده ثقافة ماركسية سطحية. وشحرور يعرف من الماركسية أكثر بكثير مما يعرفه نصر حامد أبو زيد. فهو [أي نصر] في الأصل ناقد أدبي، يعرف العربية جيدًا، ويعرف أن هذه – وإن كانت قراءة تاريخية للنص – لا توصل إلى النتائج التي يصل [هو] إليها. وأكثر طفولية من قراءته للقرآن قراءتُه لنصِّ الشافعي. فالنتائج التي يصل إليها مضحكة! فهو ماركسواني سطحي لأنه رجل طيب اشتبك مع الإسلاميين، جماعة شركات الأموال، مطلع التسعينات وهو يساري، فكتب مقالة طويلة في نقد الخطاب الديني، نشرتُها له أنا، فتنبَّهوا إليه، وكان كَتَبَ مفهوم النص – وهو كتاب ليس جيدًا – وكتب أشياء أخرى تتعلق بالنصِّ الوسيط. حتى دراسته عن الإمام الشافعي لم ينتبه إليها أحد. ولما هاجم علنًا خطاب سيد قطب والقرضاوي وغيرهما، تنبَّهوا إليه، فأعادوا قراءة كتبه السابقة، فأدى به الأمر إلى أن يصبح مثل سلمان رشدي مطارَدًا. هو رجل طيب لا يمكن حسبانه لا على أمثال شحرور ولا على أمثال أركون. ثم إن دراساته ليست دراسات محترمة، من حيث قيمتُها في فقه القرآن، أو في فهم القرآن."

لقد سبق لرضوان السيد أن دافع بشكل ملتبس قبل سنوات عن قضية أبو زيد عندما كان هذا الأخير ضيف برنامج حوار العمر في تلفزيون الـLBC. ولكن، عندما يكون رضوان السيد في حضرة القائمين على مهرجان الجنادرية لا يجد شيئًا آخر سوى هذه العبارات المتحامِلة ليصف بها مَن دفع أفدح الأثمان في سبيل حرية الكلمة وعقلانية الفكر.

لا. ليس نصر حامد أبو زيد بالمسكين، ولا حتى رضوان السيد! المسكين هو هذه الثقافة العربية التي لا تزال تُقتَل كلَّ يوم على مذبح ثقافة النفط.

*** *** ***

عن النهار، الأحد 14 كانون الأول 2003

Hamed Nasser Abu Zaid نصر حامد أبوزيد

القرآن نص تاريخي وثقافي

لقاء مع د. نصر حامد أبوزيد


القرآن نص تاريخي وثقافي

أجرى المقابلة "محمد علي الأتاسي *


هذه المقابلة الدمشقية مع د. نصر حامد أبو زيد حملتُها بين أوراقي شهوراً عدة، وكنت أتمني أن تُنشَر في مصر التي يحملها أبو زيد في قلبه، رغم المنفى. أما الجولة الصغيرة في أحياء دمشق القديمة، وصولاً إلى مقبرة باب الصغير، حيث يرقد جثمان الشاعر نزار قباني، فآهٍ لو أنها كانت ممكنة في شوارع مدينة القاهرة! لكن مصر النهضة والثقافة والمؤسَّسة الجامعية باتت اليوم تضيق ليس فقط بفكر نصر حامد أبو زيد، بل بوجوده الجسدي على أرضها، وحتى بكتبه التي سُحِبَت من المكتبة العامة في الجامعة.

قد يقول قائل إن الفكر الحرَّ والنقدي محكوم عليه أن يبقى أقلَّوياً، لكن المصيبة الكبرى أن عناصر التخلف والتقليد الأعمى واللاعقلانية صارت اليوم ثقافة تلفزيونية جامعة يروِّج لها في أوساط الملايين أشخاصٌ من أمثال الداعية عمرو خالد، ومن قبله الشيخ محمد متولي الشعراوي؛ هذا في الوقت الذي تُغلَق فيه أبواب المؤسَّسات الأكاديمية العربية، وعلى رأسها الجامعة المصرية، في وجه آخر ممثلي تيار النهضة العربية الذي بدأ بالشيخ محمد عبده وطه حسين، ويجب أن لا ينتهي مع نصر حامد أبو زيد. لكن هذا الأخير لم يُحرَم فقط من بلده وأهله ومنصبه الأكاديمي، لكنه حُرِمَ أيضاً من طلابه ومُنِعَ، زوراً وبهتاناً، من أن يزرع في عقول الأجيال الجديدة الفكر النقدي العقلاني الذي أخذه عمَّن سبقوه وطوَّره، والذي بدونه لا قيامة للعرب وللمسلمين من سباتهم الطويل.

محنة نصر حامد أبو زيد هي محنة الثقافة العربية في عصرنا الراهن؛ وكرامة أستاذ الجامعة الجريحة هي كرامة البحث العلمي واستقلاليَّته المستباحة على مذبح الإيديولوجيا القروسطوية بمكوِّنيها الرئيسين: السلطة السياسية المستبدة، والسلطة الدينية المتحجِّرة. ورهان نصر حامد أبو زيد هو رهان المستقبل، والإسلام المنفتح، والتسامح الديني، والحرية المستعادة.

يبقى رجاءٌ أخير عند قراءة هذه المقابلة: أن لا يستلَّ جندُ الظلمات والتكفير سيوفهم من أغمادها ويصرخون مجدداً: "وإسلاماه!" ولعلهم يقبلون – ولو لمرة! – أن يفتحوا عقولهم للتأمل والنقاش. فالقلم ينادي القلم، والفكر ينادي الفكر. وأين للسيوف الصدئة أن تنال من هذا الفكر المتألق!

محمد علي الأتاسي
***

- يعتبر الكثيرون أن الشيخ أمين الخولي هو رائد التجديد في الدراسات القرآنية، وأنه أول من حاول تطبيق المنهج الأدبي في مقاربة القرآن. ما طبيعة علاقتك بفكر أمين الخولي؟ وهل تعرفت إليه شخصياً؟

لم أعرف الشيخ أمين الخولي شخصياً، لكنه كان أول من نشر لي في مجلة الأدب مقالة حول أزمة الأغنية المصرية، وكنت يومها لا أزال يافعاً. من هنا نشأت العلاقة الروحية مع هذا الأستاذ الكبير. بعد دخولي الجامعة وموت الخولي قرأت كتبه، وكذلك أبحاث محمد أحمد خلف الله؛ وكنت، تالياً، واعياً أزمة الدراسات الإسلامية في قسم اللغة العربية، وواعياً مشكلة الجامعة المصرية. أحد الأساتذة الذين درَّسوا لي وأثَّروا فيَّ تأثيراً عظيماً في الجامعة كان شكري عياد؛ وهو تلميذ أمين الخولي، وكان قد حصل على درجة الماجستير برسالة عن يوم الحساب في القرآن تحت إشراف الخولي، ولكنه اضطر إلى تغيير تخصُّصه من الدراسات الإسلامية إلى الدراسات النقدية عندما أُلغِيَت رسالة أخرى تحت إشراف الشيخ أمين الخولي، هي رسالة الدكتوراه لمحمد أحمد خلف الله.

هذا الخط في الدراسات القرآنية بدأ مع الشيخ محمد عبده الذي تكلَّم على التمثيل في القرآن، واعتبر أن القصص القرآني تمثيلات، بما فيها قصة آدم وخروجه من الجنة. والتمثيل هنا مفهوم بلاغي. الشيخ محمد عبده، وان استخدم لغة تقليدية، فقد وضع الأساس لهذه التوجُّه. وجاء بعده طه حسين ودفع المنهج إلى الأمام، في كتبه كلها طبعاً، لكن في الأخص كتاب في الشعر الجاهلي، عندما أشار إلى أن القصة القرآنية عن إبراهيم وإسماعيل ليس من الضرورة اعتبارها واقعة تاريخية. وواصَلَ بعده أمين الخولي عندما اعتبر أن أدبية القرآن هي السمة الأساسية التي تسبق أي سمة أخرى، وأن التحليل الأدبي وفن القول يسبقان أي تحليل فلسفي أو فقهي. هذا المنهج طبَّقتْه عائشة عبد الرحمن في التفسير البياني، ومحمد أحمد خلف الله في رسالته الفن القصصي في القرآن، وشكري عياد في رسالة الماجستير. وأنا أعتبر نفسي تواصُلاً مع هذا الخط، في سياق تطور النظرية الأدبية وعلم النصوص. عندما كتبت مفهوم النص كان الشيخ أمين الخولي مرجعية بالنسبة إليَّ في ما يسمى أدبية القرآن.

- ما هو في رأيك سبب فشل هذا المنهج في تثبيت أقدامه داخل الجامعة وتحقيق نوع من استمرار المؤسَّسات؟ هل السبب سياسي من خارج الجامعة؟ أم أن هناك أزمة داخل هذا الفكر نفسه؟

هناك أسباب معقدة. ويجب أن نبقى على بصيرة إلى أن أي اقتراب من القرآن هو في الضرورة مخاطرة. وهذا قائم منذ القرن الثالث الهجري، العصر الذي اضطلعت فيه السلطة السياسية بدور أساسي في حسم الجدل الفكري الذي نشأ حول فكرة خلق القرآن. فالخليفة المأمون تدخَّل في البداية، وحاول فرض فكرة "خلق القرآن" بقوة الدولة، واضطهد من لا يؤمنون بهذه العقيدة؛ ثم جاء المتوكل وقام بعكس ذلك واضطهد المعتزلة. ومنذ صدور الوثيقة المتوكِّلية في ذلك الزمن حول العقائد الصحيحة لأهل السنَّة، التي تتضمن أن القرآن أزلي قديم، تجمدت المشكلة وأوقِفَت الأسئلة لصالح مؤسَّسة لاهوتية هي، إلى حد كبير، أشعرية–حنبلية. وبقي الأمر على هذه الحال إلى عصر النهضة ومشروع محمد عبده الإصلاحي الذي حاول أن يقترب من هذا السؤال. لكن يبدو أن بعض المخاوف جعلتْه يتراجع.

- لكن بعد الشيخ محمد عبده جاء طه حسين والشيخ أمين الخولي وغيرهما كثيرون. لكنهم تراجعوا عن هذا الطريق ولم يطرحوا الأسئلة حتى نهاياتها. ما هي الأسباب في رأيك؟

يجب أن لا ننظر هنا إلى كلمة "تراجُع" في معناها السلبي، وأن لا ننظر إلى الفكر باعتباره يدور في فراغه الخاص، بمعزل عن حركة المجتمع.
أسباب عدة يمكن إيرادها في هذا السياق: أولها، أن الجامعة الأهلية، كمؤسَّسة مدنية، نشأت ضعيفة. فمشروع النهضة ومشروع تحديث المجتمع قاما على بنية مزدوجة: هناك تحديث، لكن ليس هناك حداثة. لقد تم استيراد مؤسَّسات، مثل الأوبرا والسكك الحديدية والجامعة والبرلمان، لكن الممارسات استمرت وفق المنطق القديم. المجتمع المدني، ومنه الجامعة، بقي مجاوراً للمجتمع التقليدي، ولم يتم تطوير المؤسَّسات التقليدية التي بقيت ممتنعة عن الحداثة، التي جاءت في سياق إشكالي جَعَلَها ملتبسة، كونها حداثة غربية. وهذا واضح في إشكاليات مشروع الإصلاح الديني، كونه ولد مشروعاً ملتبساً يريد أن يحدِّث الإسلام حتى يتقبل الحداثة الغربية. وكأن التراث هنا خادم للحداثة وفق عناصر منتقاة من التراث.

في أعقاب حرب 1967 اختلفت الصيغة، وانقلبت المعادلة بين المتن والفرع؛ ولم تعد الحداثة مرجع تأويل التراث، بل صار التراث هو مرجع تأويل الحداثة، وأصبح التراث هو المتن الذي يؤوَّل عليه.

إذاً مشروع محمد عبده، وبعده مشروع طه حسين، كان يحمل من داخله أزمة، هي أزمة ناتجة من أزمة النهضة نفسها ووقوعها في التباس الأنا والآخر. طه حسين، عندما حذف العبارات الملتهبة من كتابه في الشعر الجاهلي، لم يتنازل عن منهج الشك الديكارتي وخط البرهان الذي اتبعه، لكنه بقي مسكوناً بهاجس دفاعي في ظل هجوم استشراقي. والمجال الذي يمكن أن نقيس فيه هذا التوتر، نجده في ترجمة الموسوعة الإسلامية في الثلاثينات من القرن المنصرم (أمين الخولي كان أحد المشرفين على هذا المشروع). فالمنهجية الصارمة والدقيقة للمستشرقين حظيت بالاحترام والتقدير عند علماء ذلك الزمن، إلا إذا اقترب الأمر من قداسة القرآن ومن شخصية النبي محمد؛ إذ إن الأمر كان يُفهَم آنذاك على أنه عداء للإسلام ونبيِّه – هذا مع العلم أن المستشرق كان ينطلق من إطار مرجعي ناقد لكتابه المقدس ولشخصية المسيح وفق منهج النقد التاريخي.

فإذا اقترب الأمر من النص القرآني تولِّد نقاطُ الاحتقان حساسيةً تتبع من تماهي القرآن مع الذات والأنا. ومشكلة الهوية هنا، في ارتباطها الميكانيكي بالدين، لا يمكن فهمها بمعزل عن الالتباس الحداثي وقضية الاستعمار.

فلنبتعد قليلاً عن مشكلة الهوية في علاقتها بالنص القرآني، من أجل إعادة صياغة بعض الأسئلة التي يطرحها المستشرقون والتي لا تزال بعيدة عن النقاش والنقد لدى المختصين بالدراسات القرآنية داخل إطار الفكر العربي والإسلامي. كمثال: لماذا لم يأمر الرسول، خلال كل فترة الوحي وحتى مماته، بجمع آيات القرآن وحفظها داخل كتاب، بل تم ذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان؟ كيف تحوَّل القرآن من نص شفاهي تحفظه الألباب إلى نص موثَّق ومكتوب؟ ولماذا؟ وماذا يمكن القول عن حال اللغة العربية في ذلك الزمن وخلوِّها من التنقيط؟ وماذا عن منزلتها كلغة بشرية، لم تتوقف عن التطور والتبدل، وعلاقة ذلك بقدسية النص القرآني باعتباره كلام الله المنزَّل بلسان عربي؟ ما رأيك: ألا يجب على المفكرين الإسلاميين أن يخوضوا في هذه القضايا؟ أم يجب تركها حكراً على المستشرقين؟
بالتأكيد تجب عودة الباحثين العرب إلى هذه القضايا، وتغطية تاريخ القرآن، وكيف تحوَّل من نص شفاهي إلى نص موثَّق ومكتوب، وليس فقط في عصر الخليفة عثمان، حيث لم يكن النص مقروءاً بسهولة، لكونه كان خالياً من التنقيط ومن علامات الحركات، وصولاً إلى النسخة التي هي اليوم في أيدينا، بنقطها وعلامات الحركات. لكن هذا كله لا يزال يدخل في إطار اللامفكَّر فيه. وأنا كنت واعياً لهذا تماماً عندما كتبت مفهوم النص؛ لكنني استبعدتُه مؤقتاً، لأنني كنت مشغولاً ببلورة مفهوم للنص وبالقيام من داخل علوم القرآن التقليدية بمحاولة قراءة حديثة لهذه العلوم. وقد ظهر لي مفهوم التاريخ، بمعنى أن القرآن نص تاريخي وثقافي. وهذا ولَّد لدى بعضهم أزمة لا تزال مستمرة. إذ فُهِمَ من "التاريخي" أنه زماني؛ ومن "الثقافي" فُهِمَ أن المقدس قد تَأنْسَن. ومع ذلك، هناك في كتاب مفهوم النص إشارات واضحة لاحتمالات دراسة أوسع في المستقبل. فهذه الأسئلة عن تاريخية النص ولغته وتوثيقه أقوم اليوم بدراستها من خلال منهج النقد التاريخي، بدون إحساس بالخوف أو بالخطر، لكن بمحاذير لا يمكن أن نقلل من شأنها.
لقد انفتح أمامي أفقٌ يفكِّك الأسْطَرَة التي ربطت ربطاً عضوياً تاماً بين لغة القرآن ورسالة القرآن، متوهِّمة أن لغة القرآن هي نفسها مقدسة ومنزلة.

- نصل إلى نقطة أساسية، أشرتَ إليها في إحدى مقالاتك الأخيرة، من خلال إيراد رأي جلال الدين السيوطي بأن القرآن أوحي إلى سيدنا محمد بالمعنى فقط، وأنه هو الذي وضع صياغته باللغة العربية. هذا الرأي يفتح على آفاق واسعة ويُحيلنا على فكرة جوهرية تقول إن القرآن مكتوب بلغة بشرية. وهذه اللغة تتطور قبل القرآن وبعده، وهي بمثابة كائن حيٍّ يتبدل بالاحتكاك مع الواقع من خلال تبدل دلالات الألفاظ ومعانيها واستخداماتها. لكن رغم ذلك، تبدو اللغة العربية اليوم لبعضهم وكأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تتمنَّع في قواعدها النحوية على التغيير؛ فكأنها شيء مقدس!

هذا وهم وغير صحيح! فالتركيب العربي اختلف وتبدلت بنيتُه، وإن كان النحو المعياري قد بقي على حاله.
أنا متفق معك تماماً! ويكفي أن نقارن لغة الصحافة والأدب اليوم بلغة النصوص القديمة لندرك الحجم الهائل للتبدل والتطور الذي عاشته، وتعيشه، اللغة العربية. وهذا خير دليل على كون اللغة كائناً حياً ومتغيراً. ولكنْ لنعد إلى السؤال الأساسي: فأنت، من خلال السيوطي، وضعت يدك على جوهر المشكلة. ومع ذلك، لديَّ إحساس بأنك لا تزال متردداً في الذهاب بالأسئلة إلى منتهاها. وهذا ما نلاحظه أيضاً عند مفكر آخر هو محمد أركون. وكأننا نطرق الأبواب، ولكننا لا نعبرها إلى صلب الأسئلة الحارقة التي، بدونها، لا مجال للخروج من النفق!
لا أستطيع أن أنكر الذي تقوله. التردُّد موجود في داخلي؛ لكنه لا ينبع من خوف على شخصي، بل يأتي من كونك تعمل في إطار أنموذج paradigm ثقافي تحاول اختراقه. ومهمة اختراق النظام المعرفي السائد والمستقر تتطلب أن تؤسِّس لنظام معرفي جديد. هذه المهمة لا يقوم بها شخص بمفرده، بل تتأسَّس من خلال التراكم. ونحن، حتى هذه اللحظة، نعمل على النظام المعرفي الذي أسَّسه الشافعي في القرن الثالث الهجري. هذا النظام المعرفي قائم على أن النص مقدس لأنه لغة ورسالة ليسا من صنع البشر. ومحاولة اختراق هذا النظام معناها أن تبيِّن أنه إذا كانت الرسالة إلهية فإن اللغة ليست إلهية، بل هي بشرية. وهذا ليس شأن القرآن وحده، بل شأن الكتب المقدسة كلها. أما الوحي فهو مفهوم مرتبط تماماً بنظام من التواصل غير اللغوي؛ وتالياً، فوحي القرآن للنبي محمد لم يكن عبر النظام اللغوي. وعليه، فإن صياغة الرسالة إنسانية. الآن، من أجل تأسيس فهم كهذا لا يكفي أن نتناول لغة القرآن، ولكن يجب العودة إلى تأسيس القواعد اللاهوتية التي تسمح بذلك.

- لكن تأسيس قواعد لاهوتية كهذه، هل يدخل في إطار دور الباحث، أم هو منوط برجال الدين؟ ولماذا لا يزال منهج النقد التاريخي عاجزاً عن الدخول بأسئلته إلى داخل الفكر الديني؛ إذ نراه أحياناً أسير محرَّمات هذا الفكر؟

بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال، فإن تأسيس قواعد لاهوتية جديدة هو بالتأكيد من مهام الباحث. نحن نخرج هنا من دائرة الإصلاح الديني وندخل في دائرة النقد التاريخي. وهذا الفرق حصل منذ 1967. أما في ما يخص الشق الثاني من السؤال، فالصورة تبدو كذلك؛ لكنها صورة خاطئة. وسأعطيك نموذجين لفكر ديني تقليدي يعمل وفق آلياته الخاصة، لكنه متأثر بالتحدِّي الذي يطرحه منهج النقد التاريخي، وإنْ لم يعترف بذلك. المثال الأول هو فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي في خصوص علاقة الرجل بالمرأة، وما يرتبط بحياة المسلم في أوروبا. فالقرضاوي، وإن كان لا يسلِّم بفكرة التاريخ لكونها خارج إطار وعيه، متأثر بالتحدي الذي تطرحه هذه الفكرة، وهي فاعلة، رغماً عنه، في نطاق الفتاوى التي يصدرها من خلال المجلس الأوروبي للفتاوى. وهذا ما دفعه إلى القول بأنه يجوز للمرأة غير المسلمة التي تحوَّلت إلى الإسلام أن تبقي زواجها من غير المسلم. وإذا كان القرضاوي لم يبنِ اجتهاده على قاعدة ثورية في اللاهوت، أو على قاعدة الحرية، بل على قاعدة الدعوة، ومن أجل تحبيب الناس بالإسلام، فإن داخل قاعدة الدعوة التي يعلنها، وداخل هذه الفتوى، توجد كل إجراءات النقد التاريخي.
والمثال الثاني هو رد شيخ الأزهر الطنطاوي على مرشد "الإخوان المسلمين" مصطفى مشهور حول موضوع الأقباط والجزية. فالشيخ الطنطاوي قال إن الجزية كانت ممارسة تاريخية. وإذا أنتَ جلستَ مع الشيخ الطنطاوي وسألته: "ممارسة تاريخية إزاي؟ ده قرآن!"، بمعنى أن تسأله: "هل تقول بأن هذا النص القرآني أصبح غير صالح؟" فأنت تكشف له هنا أن مفهوم القرآن، كنص تاريخي، تسلَّل إلى لاوعيه. إن العلاقة التي تبدو ساكنة بين الخطاب الديني ومنهج النقد التاريخي في أفق الخطاب العام، مردُّها إلى أن هذا الخطاب في يده مؤسَّسات، وفي يده سلطة، وهو متماهٍ مع السلطة؟ مع ذلك، فالأسئلة التي تقول أنتَ بامتناعه عليها هي نافذة إليه. وعلينا هنا أن نرى قدرة الهامش على اختراق المركز وإحداث حِراك فيه. بعد 11 أيلول، أصبحت هناك حمَّى اسمها "تجديد الخطاب الديني". طبعاً داخل هذه الحمَّى، قد يكون هناك خطاب سِجالي أو دفاعي أو اعتذاري. لكن على الأقل هناك تسليم بأن الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود.

- إذا كان الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود فلماذا تردَّد الباحث الذي أشرت إليه قبل قليل؟

السؤال الذي يطرحه بعضهم عليَّ باستمرار، في هذه اللحظة، هو: إن الناس تموت باسم الأسطورة؛ وعدوك يوظف أسطورته، في شكل أو في آخر. فكأنك تريد أن تفكك لنا أسطورتنا من أجل أن يهزمنا الآخر بأسطورته. ويقولون: إننا الآن في خطر لا يحتمل ترف الاشتغال على النص والتأويل.
طبعاً جوابي أن هذا ليس بالترف، وأن الفشل الذي نحن فيه عائد، في جزء منه، إلى تجمُّد وعينا. وإذا كنا نريد أن نحارب بأسطورتنا، فأسطورتنا قائمة على أسطورة العدو، وهي، تالياً، أضعف لأنها قائمة على أسسه. فهو يحاربك بالأسطورة إيديولوجياً، لكنه يحاربك بالعلم والعقل والوعي فعلياً.
إذاً أنا متفق معك أن طرح الأسئلة يجب ألا يتوقف، ويجب أن نذهب بالأسئلة إلى منتهاها. وإذا كنت أنا أحد المتردِّدين – وهذا ما لا أنكره – فلأني لست بالمدَّعي. ففي النهاية، أنت تعمل في مناخ ثقافي لا تسلِّم به كلية، لكنك لا تستطيع أن تتجاهل أنك تريد أن تنتج خطاباً يجد قبولاً، وينفذ، وإن كان لا يجد إعجاباً. وهذا ما يسمِّيه محمد أركون بـ"الترضيات الضمنية"، أي أن تنتج نقداً لفكر أنت تنتمي إليه بالضرورة؛ بمعنى أنك تنتج نقدك من داخله، وأنت محكوم بقواعد إنتاج المعرفة فيه، حتى لو كنتَ رافضاً القواعد. إذاً نحن هنا في مأزق! وما أسهل الذي يكتبه صادق جلال العظم، على أهميته، لأنه يأتي من الخارج، أي من خارج دائرة الإيمان.
نحن نتكلم هنا عن مجتمع وثقافة ومؤسَّسات؛ وأنت تطلب من المفكِّر أن يخترق المؤسَّسات بكتاب أو بمحاضرة أو ببرنامج تلفزيوني يتكلم فيه خمس دقائق، يُحذَف منها نصف الذي قاله! ومع ذلك، فهو يقوم بهذا عملياً، ولكن بإمكانات هي أقل بكثير من إمكانات هذه المؤسَّسات. فلنقل إن أي كتاب لا يمكنه أن يُحدِث اختراقاً إذا لم يتحول إلى ثقافة عامة عن طريق وسائط نقل المعرفة، من مستواها إلى مستوى وعي الناس. وهذا غير متحقق لنا، بسبب غياب الديموقراطية، وغياب الحرية، وغياب مؤسَّسات وسيطة، حاملة وناقلة للمعرفة، وبسبب سيطرة السلطة، في أشكالها المختلفة، على وسائل الإعلام. طبعاً أنا هنا لا أضع معوِّقات لنفسي، ولكن أكشف لك حدود تأثير ما أكتبه.

- أعود لقولك بتاريخية النص القرآني، وبأنها لا تعني زمنيَّته، ولا تعني إنكاراً لألوهيته، بل تعني أن القرآن نزل في التاريخ، وهو يتفاعل معه تفاعلاً حراً، وسيستمر عمله في التاريخ، وأنه يحمل ملامح القرن السابع الميلادي، ويدل على ممارسات العرب في ذلك القرن، وعلى موقعهم في العالم القديم، ويعكس لنا حالة التاريخ قبل نزوله ولحظة هذا النزول. قولك هذا يدعو إلى التأسيس عليه، ويفتح أفقاً واسعاً للنقاش، ويُسقِط الكثير من الحواجز أمام العقل. فكيف لك بعد
ذلك أن تطلب منا التروِّي في طرح الأسئلة؟

إذا اتفقنا على أننا نشتغل من داخل دائرة الإيمان فإننا نخوض في مسلَّمات راسخة، يحتاج تحريكها إلى التحلِّي بالصبر، والى وقت طويل، وإلى عدد كبير من الباحثين. تاريخية النص – القرآن مثلاً – تعني أيضاً أن هناك أجزاء منه سقطت بحكم التاريخ، وصارت شاهداً تاريخياً؛ أي أنها تحولت من مجال الدلالة الحية المباشرة إلى مجال الشاهد التاريخي. مثال ذلك تحوُّل آيات الرق والأحكام المتعلقة بها إلى آيات للعبرة بعد زوال نظام الرق من حياتنا. هذه الخطوة لا يكفي أن تقولها وتمضي. إنها هنا عملية خلق للوعي، وعليك أن تعمِّق هذا الوعي في استمرار بأمثلة وشواهد، وأن تكرر في استمرار ما كتبتَه. إذاً تاريخية النص، وانتماؤه إلى الثقافة، وانفتاحه على التأويل في ثقافات مختلفة، هذه القضية كسبت أرضاً، ولكنها لم تصر مستقرة داخل الوعي العام. طبعاً أنا لا أقول إن عليَّ الانتظار. فأنا أتحرك! ولكني الآن أتحرك وحدي بعدما حُرِمْت تلامذتي وموقعي داخل الجامعة المصرية.

- في السياق نفسه، أنت من الذين يشددون على أن القرآن هو مجموعة من النصوص التي رُتِّبت ليس وفقاً لترتيب نزولها الزمني، ولكن وفقاً لتراتيب أخرى لم تُكتشَف بعد، وأن التساؤل: لماذا لم يُرتَّب القرآن بحسب تسلسل نزول آياته هو أمر مشروع في البحث العلمي لأنه لا يشكك في الحكمة الإلهية ولا في قدسية النص.

الحقيقة التاريخية الأكيدة هي أن ترتيب القرآن الحالي ليس هو ترتيب النزول، وأن ترتيب القراءة الحالي أحدَثَ تغييباً للسياق؛ وتالياً، فإن أي مقاربة منهجية لتفسير القرآن عليها أن تستعيد هذا السياق. في تحليل القرآن، هناك مقاربتان: التعاقُب diachronicity، والتزامُن synchronicity؛ وجمع الاثنتين مهم جداً في أي مقاربة. فلو حلَّلتُ القرآن فقط وفق ترتيب النزول سأكون متعاملاً مع القرآن على أنه كتاب في التاريخ وحسب، وهو ليس كذلك. أما إذا رضيت فقط بترتيب القراءة، أكون قبلتُ بإهمال الجانب التاريخي في التعامل مع القرآن. في عبارة أخرى، إذا كنا نقول إن القرآن تاريخي (بشري) وإلهي، فإن بنيته نفسها توضح هذه الازدواجية، وينعكس فيها هذان البعدان. فترتيبه المجزأ والمنجَّم يعكس أنه جزء من التاريخ، وأن هناك تطوراً داخلياً؛ أما إعادة ترتيبه وفق قواعد مغيَّبة عن التاريخ، لم نكتشفها بعد، فتؤكد فكرة أنه رسالة مقدسة.
إجراء أي مقارنة بين بنية القرآن التاريخية وبنيته اللاتاريخية يحتاج إلى دراسات واسعة ومعمَّقة وإلى فريق عمل جماعي يشترك فيه عدد كبير من الباحثين. هناك 114 سورة، بينها المكي والمدني، عمل عليها في السابق المستشرقون. لكن لا بدَّ من العمل على الآيات، والرجوع إلى المادة التاريخية، والعمل على نقد المرويَّات الخاصة بأسباب النزول؛ ولا بدَّ من الاشتغال على البنية الداخلية للآيات، لأن الكشف لا يكون من خلال الوثائق الخارجية وحدها، ولكن من خلال البنية الداخلية كذلك.
وإذا كان طرح الأسئلة الجوهرية يمكن أن يتم بواسطة أفراد فإن إنتاج المعرفة في حاجة إلى بنية علمية مؤسَّساتية. ويجب عدم تناسي أن النقد التاريخي للكتاب المقدس تحقق بثورة من داخل مؤسَّسة الكنيسة؛ أما مؤسَّساتنا الإسلامية فلا تزال تنتج ملايين الكتب عن الإعجاز العلمي للقرآن والسنة النبوية! ثم، هل عندنا فعلاً في العالم العربي والإسلامي دراسات إسلامية في المعنى العلمي للكلمة؟ لا. ليس هناك مؤسَّسة واحدة تدرس القرآن في اعتباره موضوع دراسة، بل في اعتباره موضوع إيمان ووعظ. الأزهر، كمؤسُّسة، لا يدخل في نطاق مهمته أن يدرس القرآن تاريخياً ويحلِّله؛ مهمته أن يعلِّم القرآن ويفسِّره. لذا يجب علينا ألا نطلب من مفكرين فرادى أن يقوموا بالمعجزات.

- عوداً على أسباب النزول، نجد أن القرآن لم ينزل نصاً واحداً، بل نزل على الرسول خلال ما يزيد على العشرين سنة. وإذا كنت أنت تذهب إلى أن كل نص من القرآن يتعلق بواقعة وبسؤال نشأ من الواقع، فإن ما يزيد على 80 في المئة من الآيات لا توجد فيها أسباب نزول. فكيف يمكن الوصول إذن إلى هذه الوقائع التاريخية المرتبطة بسياق نزول الآيات؟

دعنا في البداية نخرج من إطار المصطلحات الملتبسة. علينا التفريق بين أسباب النزول، كمصطلح مستقر في المعنى الفقهي الوارد في المرويَّات التراثية، وما يمكن أن أسمِّيه السياق التاريخي للوحي. هذا السياق لا يمكنه أن يتجاهل مفهوم أسباب النزول في المعنى الفقهي؛ لكنه يتعامل معه تعاملاً نقدياً، لأن بعض هذه الأسباب متناقض، وبعضها الآخر يأتي تبريراً لمعنى معيَّن يريد المفسِّر أن يفرضه. كما يجب عدم الاكتفاء بأسباب النزول، لأنها كما ذكرتَ قليلة.
مثلاً عندما تبدأ سورة البقرة بالآية: "ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه"، فهذا جواب عن سؤال لا نجده في الآيات التي تتبعها مباشرة، بل نجده في ما بعد حين يتكلم عن سؤال اليهود للنبي محمد أن يأتي بكتاب كألواح موسى. إذاً فكرة الكتاب موجودة في النص القرآني، ولها سياق نزول، لكن يصعب ربطه بالآية في افتتاح السورة، لأن السؤال موجود في آية أخرى وُضِعت في مكان آخر، وتالياً، عملت تغييباً لسياق الآية الأولى.
نقطة أخرى هي ضرورة التعامل مع النص القرآني ليس فقط من خلال أسباب النزول، ولكن من خلال سياقه التاريخي في معناه الأشمل، ومن خلال شخصية النبي محمد وعلاقته بالمجتمع والثقافة. وهذه كلها لا تزال في إطار المحرمات.

- كيف تفهم اليوم علاقتنا بالسنَّة النبوية، وميل البعض إلى تقديسها واعتبارها جزءاً من الوحي؟

أظن أن هذا الكلام تم تحليله في أسبابه التاريخية في شكل كاف. فمنذ اللحظة التي اعتُبِر فيها القرآن غير كافٍ وحده، تم تدشين السنَّة، ليس كنص ثانٍ أو كنص شارح، بل كنص يتمتع بالقيمة المعرفية نفسها التي يتمتع بها القرآن؛ حتى إن بعضهم يذهب إلى حدِّ القول بأن القرآن أكثر حاجة إلى السنَّة من حاجة السنَّة إلى القرآن! أعتقد أن هناك جانباً مشروعاً في هذا، وجانباً تمت المبالغة فيه. فلو أنت اقتلعت السنَّة من تاريخ الفكر الإسلامي لما بقي هناك شيء!

- مع ذلك، لا يعتبر أهل السنَّة أن الأحاديث النبوية هي وحي، لأنها ليست كلام الله.

لا، هذا غير صحيح! فهي تُعتبَر بمثابة الوحي الذي صاغه النبي محمد؛ أي أنها كلام الله بلغة محمد. فالإمام الشافعي يعتبر أن السنَّة هي الحكمة المذكورة في القرآن. والفرق بين القرآن والسنَّة، المتجسدة أصلاً في الحديث، أن السنَّة هي كلام الله الموحى إلى محمد، لكنها ليست لغة الله، بل لغة محمد. أي أن الفرق لدى الشافعي هو أن القرآن متعبد في قراءته لأن اللغة من عند الله؛ أما السنَّة فهي قرآن لا يتعبد في قراءته لأن الصياغة هي صياغة محمد. والسؤال هنا: هل كان القرآن، قبل ظهور هذا التمييز، كلام الله ولغته في الوقت نفسه، أم لا؟ لذلك فإن طرح السؤال عن لغة القرآن مرتبط بطرح السؤال عن السنَّة، ومتى تكوَّنت المفاهيم الأساسية داخلها؛ وهذا في رأي سابق على الشافعي، الذي صاغها بشكلها النهائي.

- إذاً الباحث في تعامله مع نصوص السنَّة هو أيضاً أمام مشكلة قداسة، كحاله مع القرآن؟

طبعاً! فالمشكلتان مرتبطتان الواحدة بالأخرى، كونهما وحياً. وهذا يتطلب منا أن نستعيد أيضاً مفهوم الوحي، وهل الوحي، وفق المفهوم الديني، أُغلِق بقوله تعالى: "خاتم النبيِّين" [الأحزاب 40]؟ ولماذا يؤمن المتصوفة بغير ذلك، ويقولون إن الختم هو ختم وحي التشريع، وليس وحي الفهم؟ حتى إن ابن العربي، في تناوله حديث الرسول "لا نبي بعدي"، يقول: "ليس أشد على أهل الله من هذا الحديث." لكنهم ذهبوا إلى أن لا نبي يشرِّع من بعد النبي محمد. الحال مشابهة لذلك عند الشيعة الذي يعتبرون أن توارث العلم عند الأئمة معناه استمرار انكشاف معنى الوحي في التاريخ.
مفهوم الوحي له مكانه أيضاً داخل الفلسفة الإسلامية؛ وهو قائم على مفهوم الخيال الذي يشترك فيه النبي مع الفيلسوف. فالفيلسوف يتصل مع العقل الفعال أو العقل الأول مثلما يتصل النبي مع الوحي. والفرق بين النبي والفيلسوف ليس في الوحي، ولكن في تعبيرات الوحي، أي اللغة التي تعبِّر عنه من خلالها. حي بن يقظان وصل إلى كل المعرفة التي وصل إليها الوحي الذي آمن به سلامان، لكن اللغة التي يعبِّر فيها عن الحقيقة مختلفة. وهذا يحيلنا على ابن رشد. كل هذا يبين لنا أن المسلمين كانوا مشغولين بالأسئلة نفسها، وحاولوا أن يجدوا حلولاً لها.
في عودتنا إلى جذور المشكلة لا نتبنى هذه الحلول، ولكن نتعامل مع المشكلة في سياقها التاريخي، ونربط هذه المفاهيم بتاريخها الثقافي، المقموع والمهمَّش. ونحن اليوم، عندما نجد حلولاً، لا نكون بدورنا خارج إطار الثقافة.

- لكنك في بعض كتاباتك تستدعي المعتزلة بحثاً عن مشروعية تاريخية، وتتبنى أحياناً الحلول التي يطرحونها، كفكرة أن ألوهية القرآن لا تعني أزليته، لأنه لا يمكن أن يقال إن القرآن أزلي بجانب الله، قديم مثل الله. فهذه الفكرة معتزلية بامتياز.

لا. هنا يجب أن تقرأ أعمالي في شكل تاريخي. ففي كتابي الأول كان هذا صحيحاً؛ لكني لا أعتقد ذلك الآن. أنا اليوم أستشهد بهم فقط على قرائن ومواقف تاريخية، أكثر مما أستشهد بهم بحثاً عن مشروعية لفكرة أريد أن أطرحها. أما فكرة أزلية القرآن فأنا لا أتبناها في صيغتها الدينية، وغالباً ما أستخدمها في السياق السِجالي، كما في كتاب التفكير في زمن التكفير، لأن الذي يحاججك يضرب بقوة التراث، وأنت في ردِّك تحاول أن تبيِّن تناقضه، كونه يرتكز على تراث واحد. لذلك لا أعتقد أن العودة إلى خلق القرآن وقِدَم القرآن في الإطار المعرفي للمعتزلة يمكن أن يحل لنا أي مشكلة، لأننا اليوم داخلون في قضية لغة القرآن نفسها التي لم يتطرق إليها المعتزلة أبداً.

- في إطار موضوع اللغة ومدلولاتها، هناك بعض النظريات البراغماتية في الفلسفة الأنغلوساكسونية، وفي مقدمتها الأبحاث المتأخرة لفِتكنشتاين. وأنت تحاول أن تبرهن أن الكلمات والتراكيب اللغوية لا تجد معناها الأول والحقيقي داخل بنية النص نفسه، ولكن في إطار الاستخدامات العملية التي يصنعها بها البشر داخل سيرورة واقعهم الاجتماعي.

اللغة، في مجال تداولها، هي بمثابة عملة متداولة. لكن النص يتم تداوله أيضاً كدالٍّ وكعلامة؛ ومجالات تداوُله تختلف، وهذا يعدِّد المعاني فيه. وإذا كان أصحاب نظرية النص الخام يتصورون أنهم يستطيعون العودة إلى النص في مجال تداوُله الأصلي، فإن هذا مستحيل لأن اللغة، كعملة تداول، لا تصاب بالتلف كالأوراق المالية! وتالياً فهي تقوم بتحولات في المعنى وتتجدد. مثال: في التداول الأوَّلي للنص القرآني لم يكن هناك تناقض بين "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" [الإخلاص 4] وبين "يد الله فوق أيديهم" [الفتح 10]. أي لم يكن هناك تناقض داخل الأنموذج الثقافي لدى الجيل الأول بين إله منزَّه تماماً، "ليس كمثله شيء" [الشورى 11]، وبين إله له عين ويد، يحب ويكره ويبغض. عندما تغيَّر هذا الأنموذج، لأسباب كثيرة جداً، وتغيَّر معه مجال التداول (العلاقة مع غير العرب، وترجمة الفلسفة، والاحتكاك مع الفكر اللاهوتي المسيحي، إلخ) انكشف التناقض. الفكرة هنا أنك يجب أن تكون مسلحاً بنظرية في اللغة، وبنظرية في النص، وبنظرية في علم العلامات، لأن النص يتحول، ككتلة، إلى علامات. مثلاً: كلمة "السماء" داخل العبارة القرآنية "السموات والأرض"، في تداولها الأصلي، تعني أي شيء علا؛ أما كلمة "السماء"، في تداولها اللاحق، فباتت تحيل على عالم غني بالملائكة والجن والعرش إلخ؛ أي تحولت المفردة اللغوية، من خلال مجال التداول، إلى مفردة علاماتية.
إذاً النصوص الدينية هي في عملية تداول مستمرة؛ وهي قادرة على إعادة إنتاج معناها، ليس في معنى التكرار، ولكن في معنى التجدد والتطور. والأكيد أنها لا تقوم بذلك بنفسها، ولكن من خلال ما يصنعه المؤمنون بها من خلال التداول.

- استخدامك لمصطلح "الأنموذج" paradigm يحيلني على علاقتك الأكاديمية ببعض النظريات الغربية، وببعض المفكرين الغربيين. فنادراً ما نراك تستشهد بهم، أو تدخل في حوار مع بعض أطروحاتهم، رغم الانطباع المتولد لديَّ بحضورهم الخفي في أعمالك.

إذا كنت أستفيد في أبحاثي من بعض النظريات، في نصوصها الأصلية أو في ترجماتها، فأنا في الحقيقة حريص أن أتمثل هذه المفاهيم الغربية في سياق الثقافة العربية. وأنا أكتبها باللغة العربية، فلا يشعر القارئ بالرطانة التي تحيل على لغة أكاديمية عالية. وما أسهل أن أقوم باستشهادات من فوكو ودرِّيدا، مثلاً؛ لكن هذا يصبح قصاً ولصقاً!

- لكن مصطلح paradigm الذي استخدمتَه يحيل على أبحاث توماس كون T. S. Kuhn عن القطائع العلمية داخل فضاء الفكر الغربي [راجع كتاب كون بنية الثورات العلمية]؛ وأنت تسحبه من سياقه إلى سياق آخر. والسؤال هنا: هل أنت تستخدمه بمعنى القطيعة العلمية لدى كون؟ ولماذا لا تحيل قارئ كتبك على مراجعك النظرية؟

لا، ليس في الضرورة أن أكون استخدمت paradigm في المعنى نفسه، ولكن في معنى التغايُر في الأسس المعرفية على الأقل. أي أن paradigm، بالنسبة إليَّ، هو الانتقالة الأساسية في مجال الثقافة والمعرفة. ولا يهمني كثيراً بعد ذلك مسائل تاريخ استخدام المفهوم النظري داخل الثقافة الغربية. أنا لا أشتغل بتاريخ الفكر الغربي، أو بتاريخ الفلسفة، فأدخل في نقاش حول المفاهيم والأطروحات. وإذا استخدمت بعض هذه المفاهيم فأنا لا أستخدمها قبل أن تصبح واضحة.
أما في موضوع المرجع، فأنا في الحقيقة لا أملك مرجعاً محدداً، لأنها قراءة تحولت إلى جزء مني. والقارئ الواعي بالمصطلح يعرف مراجعه، وخصوصاً أنني لا أستخدم أي مصطلح وهو لا يزال في حال التباس داخل مجال اللغة العربية. وأنت هنا تُلزِمُني، في شكل أو في آخر، أن أنخرط في هذه القضايا النظرية. محمد أركون مشغول بهذه القضايا؛ ويجب أن أقول لك أني مدين له كثيراً في موضوع المنهج. لكن انشغال أركون بهذا الموضوع لا يسمح له بالاشتغال كثيراً بما وراء ذلك. أنت يمكن أن تبذل عمرك كله في الكلام عن الوصفة والمقادير. أنا أحب أن أدخل المطبخ وأجرِّب!

- هذا يحيلنا على وجودك منذ سنوات خارج العالم العربي، كأستاذ زائر في جامعة ليدن، يدرِّس طلابه باللغة الإنكليزية. رغم ذلك، معظم كتاباتك لا تزال تصدر باللغة العربية، وتندرج في فضاء مسائل الثقافة العربية – وكأنك، روحاً وفكراً، لم تغادر قط العالم العربي!

لا أرغب أن أُبعَد عن المجال الثقافي العربي؛ وخوفي الرهيب هو أن أبقى في الغربة فأنتمي إلى المجال الثقافي الغربي. عمري كله أمضيته في القضايا الساخنة داخل الثقافة العربية؛ وأنا حريص جداً أن تبقى معظم كتاباتي باللغة العربية، وأن لا أكتب إلا القليل باللغة الإنكليزية. فرغم أني على اطلاع على القضايا الساخنة في الفضاء الفكري الغربي، لكني لست طرفاً فيها، ولست جزءاً من حلِّ مسائلها.

- غالباً ما تستغل بعض الأوساط الثقافية والإعلامية في الغرب قضية التعاطف مع المثقفين المسلمين المضطهدين في بلادهم، بسبب آرائهم النقدية من الفكر الديني، كغطاء من أجل شنِّ حملات عنصرية ضد الإسلام كدين. ألم تتوجَّس حال وصولك إلى أوروبا من أن تُستخدَم قضيتُك في هذا الاتجاه؟

هذه نقطة مهمة جداً. لكن دعني أقول إن السياق الذي سافرت فيه إلى هولندا خلق عندي تخوفاً شديداً من أن يحتفي بي الغرب باعتباري ناقداً للإسلام كدين. هناك إغراء حقيقي بالنسبة إلى أي إنسان مضطهَد ومظلوم تحت خيمة الحماية أن يستطيب حكاية الاضطهاد والظلم هذه. وأنا كنت واعياً، وحذراً جداً، حيال هذه النقطة، إلى درجة أنني رحت أبدأ محاضراتي هناك وأنهيها بطقوس الخطاب الإسلامي، الأمر الذي لم أكن أفعله في العالم الإسلامي! وهذا ليس تظاهراً، بل عائد إلى أني كنت متخوفاً حقيقة في البداية أن يحتفي بي الناس ويقدِّروني لأنهم يرون أني أنقض الإسلام من خارجه؛ في حين كنت حريصاً أن أؤكد لهم أني ناقد للفكر الإسلامي من داخل الإسلام، وأني مسلم، وأن القضية ليست قضية دينية، ولكنها قضية سياسية في الجوهر.
ثمة جانب آخر يتعلق ببعض الباحثين. فبمجرد أن يكون الواحد منهم في الغرب يصبح لديه ميل إلى أن تعترف به المؤسَّسات الأكاديمية الغربية وتحتفي به وكأنه واحد منها. فتراه لا هو ينتمي تماماً إلى المجال الثقافي الغربي، ولا هو قادر على المحافظة على انتمائه إلى مجاله الثقافي الأصلي (إذا استثنينا طبعاً إدوارد سعيد). أما بالنسبة إليَّ، فأنا هنا "أستاذ زائر"؛ وهي صفة تجعلك جزءاً من المؤسَّسة الأكاديمية، ولكنك، في الوقت نفسه، تنتمي إلى فضائك الثقافي الخاص. وإذا كنت أنا نفسي ضد فكرة أن أعيش بإحساس الضحية فإن سعادتي كانت كبيرة لأن الجسم الأكاديمي في جامعة ليدن لم يتعامل معي كأستاذ ينشد الحماية، بل كأستاذ زائر له شرفه الخاص، كمفكر وكإنسان، ولا يرضى أن يتاجر بقضيته.

- في كتابك الأخير دوائر الخوف في خطاب المرأة نلاحظ تداخل الهمِّ الذاتي مع الهم الجماعي. ترى هل أثَّرت الأزمة التي أصابت زوجتك ابتهال يونس وأصابتك في مسارك الفكري؟

الهمُّ الذاتي كان دائماً موجوداً في أبحاثي؛ لكنه في هذا الكتاب أصبح مفصَحاً عنه في شكل أوضح، وخصوصاً أنه كتاب عن المرأة. الأزمة التي تعرَّضنا لها، زوجتي وأنا، لا تزال تسمَّى قضية نصر حامد أبو زيد. حتى القوى الثقافية والوطنية، التي تعتبر نفسها تقدمية في مصر، تناولت القضية على أنها قضية رجل تعرَّض للاضطهاد؛ مع أنها، في الأساس والجوهر، ظلم فادح ارتُكِبَ في حقِّ امرأة. نحن هنا أمام شرف امرأة امتُهِنَ. وهي لم تؤلف أي كتاب عن الإسلام؛ ومع ذلك لا تزال القضية تُطرَح في الخطاب العام على أنها قضية نصر حامد أبو زيد وحده. وهذا دليل على أننا نعيش داخل ثقافة ذكورية. السؤال هو: لماذا لم ينفُذوا في حربهم ضد أبحاثي إلا عبر الحلقة الضعيفة التي هي قانون الأحوال الشخصية والطلاق؟ ولنفترض، جزافاً، أن ذلك المدعو نصر حامد أبو زيد يجب أن يعاقَب لأنه، حسب ما يقولون، اقترف مُنكَر الردَّة. طيب، فليعاقَب! لكنهم، كما قالت ابتهال، يتعاملون مع المرأة على أنها دمية الرجل! وأفضل عقاب له هو حرمانه دميته، مستغلين وجود جناح ضعيف في المجتمع والمؤسَّسات والقوانين. رغم ذلك كله، لا أريد أن أتعامل مع هذه القضية على أنها قضية شخصية. فأنا لو عشتها على هذا الشكل، وعشت آلامها فردياً، لكنت انتهيت من زمان.

- بالتوازي مع قضية الطلاق والتفريق، هناك قضيتك كأستاذ جامعي ومكانتك داخل الجامعة. فكأن معركتك الأساسية هي أيضاً دور الجامعة المصرية ومكانة الأستاذ الجامعي وحريته داخل هذه المؤسَّسة المدنية؟

[صارخاً] طبعاً! هذه قضيتنا كلنا. وقد كتبت في مقدمة التفكير في زمن التكفير عن دور الجامعة، وعن الأسباب التاريخية التي أدت بهذه المؤسَّسة، المفترَض أنها مدنية وعلمانية، إلى أن تصبح ضعيفة وهشة، وأن تستسلم، منذ بدايتها، أمام أي هجوم تشنه عليها المؤسَّسة التقليدية.
وعلى الرغم من عدم وجود عائق قانوني يحول دون عودتي إلى مصر، فأنا لم أعد حتى الآن، وقلت في شكل صريح أني لن أعود ثانية إلى مصر إلا كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه في الجامعة المصرية. لكن الواضح أن الجامعة وصلت إلى درك باتت لا تتحمل فيه حتى هذا الطلب لأستاذ لا يزال مسجلاً كعضو في طاقمها التدريسي. وفي المناسبة، حتى جامعة دمشق لا تتحمل ذلك. فقد حاول د. صادق جلال العظم أن يدعوني كعضو في لجنة مناقشة رسالة ماجستير، أو حتى للمشاركة في أسبوعها الثقافي، وفشل في ذلك!

- يقول بعضهم إنه لو كان لبيروت دورها الثقافي والجامعي الذي اضطلعت به في مرحلة الستينات لاستضافت الدكتور نصر حامد أبو زيد في جامعاتها، بدل أن يذهب إلى هولندا. ما رأيك بهذا الكلام؟ وهل أنت مستعد للعودة إلى العالم العربي إذا عرض عليك التدريس في إحدى جامعاته؟

أنا في انتظار دعوة من الجامعة المصرية أولاً؛ ولكن أيضاً من أي جامعة عربية. ولو عُرِضَ عليَّ منصب أستاذ في أي جامعة عربية فسأترك هولندا في اليوم الثاني، لأني سأكون مع ناسي وأهلي. لكن إذا تحقق هذا فمعناه أن الجامعة مختلفة والمكان مختلف، لأنهم لن يدعوني لأصمت، ولكن لأعبِّر بحرية عن خطابي وتفكيري.

- هل تعتقد أن هناك أملاً في أن تربح معركتك داخل الجامعة المصرية؟

يعني إيه "أربحها"؟! أنا اليوم داخل على الستين؛ وسأحال قريباً على التقاعد، بحسب قوانين الجامعة المصرية. يعني خلاص مافيش معركة، وعلى الأجيال الجديدة أن تخوض معركتها. الجامعة المصرية خُرِّبَت بفعل عوامل الفساد المنتشرة في المجتمع ككل – والفساد يسند بعضه بعضاً. أنا لا أتوقع أن تقوم قائمة للجامعة المصرية في المستقبل القريب، ولا حتى للجامعات العربية؛ فالوضع ليس أحسن حالاً هنا في دمشق. والمفارقة أنني هنا في سوريا؛ بمعنى أن المجتمع قبل بي. وحتى السلطة السياسية ليست ضدي؛ والدليل أنها سمحت بقدومي. بما يعني أن الجامعة أكثر تخلفاً من السلطة السياسية المستبدة، والاثنان أكثر تخلفاً من المجتمع! هذه ظاهرة خطيرة. فالمفروض أن تكون الجامعة هي رأس رمح التقدم في أي مجتمع؛ الأمر صار عندنا مختلفاً. في السابق لم يُكفَّر طه حسين داخل الجامعة. أنا كُفِّرت في الجامعة وحوكمت خارج الجامعة!

- هذا يقودنا إلى سؤال عن الواقع الثقافي المتردِّي في مصر. فأين نحن اليوم من ذلك البلد الذي شهد ولادة فكر النهضة وحَضَنَ كبار كتابها؟

دعنا من الكلام بمنطق الحنين! الواقع أن إنهاك مصر لم يكن فقط لأسباب اقتصادية أو عسكرية؛ إنما حصل استنزاف للعقول خلال الحقبة النفطية نتيجة التحالف المصري–السعودي–الأمريكي والهيمنة السعودية على المؤسَّسات الدينية؛ فتحولت المؤسَّسة الدينية في مصر إلى مؤسَّسة وهابية بعدما كانت أشعرية. حدثت هجرة للمصريين بأعداد كبيرة جداً إلى دول النفط؛ فعادوا بعقول تم غسلها بمنطق إيماني مختلط بالثراء. وإذا كان مفهوم النفط نفسه، كبنية اقتصادية، معناه أن تتحقق الثروة من دون عمل؛ أي أن الثروة موجودة تحت الأرض، ولا يحتاج استخراجها سوى إلى الحفر، فإن هذا ساهم في ترسيخ بنية معرفية تعتقد أن المعرفة موجودة في الماضي، وهي لا تحتاج إلى إعمال العقل للوصول إليها، بل تحتاج فقط إلى نبش الماضي بحثاً عن حلول للحاضر. سيطرةُ هذه البنية المعرفية المنبثقة من ثقافة البترول جعلت العمل والتفكير بلا قيمة. حركة المدِّ التي كانت تخرج من مراكز الحضارة إلى مراكز البداوة انقلبت، بفعل البترول وأزمات الحروب، وأصبحت البداوة وقيمها وفقهها تزحف على الحضارة. وهذا، في رأيي، ساهم في التفكك الثقافي الذي نشهده اليوم، ليس في مصر وحدها، بل في الكثير من البلدان العربية، كسوريا مثلاً.

- من يتحدث معك يشعر أن لديك قلقاً أن لا تعود إلى مصر.

آ... طبعاً! ليس القلق بل الحزن. كنت أتصور أنني تجاوزت هذا الموضوع؛ لكني صرت أفكر فيه كثيراً. هو ليس الحنين إلى مصر، أو القاهرة، أو حتى إلى الجامعة، ولكن رغبتي أن أزور قريتي وألتقي إخوتي الذين لم تُتَح لي الفرصة حتى لوداعهم. عايز أروح أسلِّم عليهم وأمشي. لكن لن تكون هناك زيارة للقاهرة في برنامج الرحلة. أروح القاهرة أعمل إيه؟ لو كانت الجامعة دعتني، كنت نزلت القاهرة برايتي كأستاذ جامعة. الوطن انحصر في مكان الميلاد؛ أما الوطن الواسع فلا أحد يستطيع أن يحرمني منه! غير أنني بتُّ أحمله داخلي.

- في الحفلة الغنائية التي قدَّمها الفنان محمد منير في دمشق، ضمن مهرجان دار المدى الثقافي، كنتَ جالساً في الصف الأول، ولاحظ الجميع أن دموعك انهمرت فجأة. ما السبب؟

أريد أن أقول لك شيئاً، لكن لا أعرف كيف أقوله! أنا شخص عاطفي، ولا أخجل من ذلك. عندما شاهدت فيلم المصير، وسمعت لأول مرة أغنية "علِّي صوتك بالغُنى"، وجدتُها طريفة وضحكت. لكن عندما غنَّاها محمد منير هنا في دمشق ولحظة قال: "لسَّه الأغاني ممكنة"، انتفضت ولم أعد أستطيع أن أتحكم بدموعي، ورحت أسأل نفسي: أفعلاً هي ممكنة؟
مرة دعتني جمعية أهلية اسمها "فضاءات ثقافية" إلى مدينة طنجة في المغرب. وفي ليلة الوداع أقيم عشاء، وراح بعض الأصدقاء يغنِّي للشيخ إمام، فانهمرت دموعي، فتوقفوا عن الغناء وأخذوا يعتذرون، متخيِّلين أنهم جرحوني. فقلت لهم: لماذا تتصورون أنه الألم؟ استمروا في غنائكم، ودعوني في دموعي؛ هي بمثابة غسيل لي!

- ما سبب إصرارك على زيارة قبر الشاعر نزار قباني في مقبرة باب الصغير بدمشق؟

إن موت شاعر كبير كنزار قباني في إنكلترا، بعيداً عن وطنه، وعودته في نعش ليدفن فيه، وما حدث في لندن، عندما رفض بعض المتطرفين إدخال جثمانه للصلاة عليه في الجامع، كان له أثر في نفسي؛ فحدث نوع من التماهي، تخيلت فيه أن الأمر نفسه يحدث مع زوجتي إن هي قررت أخذ جثماني إلى مصر. طبعاً، هناك أيضاً الألم لفقدان شاعر كبير أغنى وعينا بشعره الإنساني العميق جداً والبسيط جداً. شاعر عظيم عاش في الغربة؛ وعندما مات، باتت السلطة مهتمة بالجثمان، وعرضت طائرة عسكرية من أجل نقله إلى وطنه! هذه الحادثة أيضاً مسَّت ألماً في داخلي.
زرتُ أيضاً قبر ابن العربي وقبر صلاح الدين في دمشق، ولم أستطع أن أتوقف عن مقارنة تواضع قبر صلاح الدين بأبَّهة الأضرحة لبعض القادة العرب. لا أنكر أني، في الآونة الأخيرة، رحت أتأمل في مسألة الموت ومعنى القبر وقيمته. وكما قلت سابقاً، تمنيت على زوجتي أن تدفنني حيث أموت، ولا تتجشم عناء نقل جثماني إلى مصر. الأرض كلها أرض الله، ولا أريد لزوجتي، إلى جانب الحزن الذي ستعيشه، أن يقول أحدهم كلمة أو يكتب مقالاً يجرحها ويزيد عناءها. وحتى إذا عدتُ إلى مصر ميتاً، واحتُفِي بجثماني، فما معنى ذلك، إذا كنت سأموت وحيداً وبعيداً عن وطني؟!

- هل أنت مجروح من وطنك؟

نعم، بمعنى الغضب، ولا أخجل من ذلك. فمن حقي أن أكون غضبان. أعتقد أن غضبي أحياناً يحميني؛ وهو لم يقل منذ لحظة مغادرتي قبل سبع سنوات. أحب مصر إلى درجة أني لا أريدها أن تكون مقبرة لي. مصر وطن حُرِمْت العيش داخله؛ فلماذا أُدفَن فيه؟! إذا كان وطنك لا يريدك حياً، يجب أن تحرمَه منك ميتاً.
أنا أميِّز بين مصر الناس ومصر المؤسَّسات. لكن، مع ذلك، هي علاقة غريبة جداً. أحياناً أفكر بمصر وكأنها أمي؛ لكنها أمي التي رفضتني ونبذتني. هذا آلمني جداً إلى درجة أني – وكنت لم أغادر مصر بعد – قلت لها: يا مصر أنا عاوز أفتح للضوء كوة وأنتِ مش عايزة. فبخاطرك يا مصر!
أنا بعيد عن المكان، وليس عن الناس. أحمل حبي للمصريين وغضبي من مصر... الجامعة... الجامعة جرحي.
________________
* أجرى المقابلة "محمد علي الأتاسي