القاهرة تمنع الخطاب والتأويل
لنصر حامد أبو زيد
الثقافة تُقتَل على يد الظَّلامية والنفط
محمد علي الأتاسي
لم يكن يكفي الثقافةَ العربية عارُ إبعاد نصر حامد أبو زيد عن التدريس في الجامعة المصرية وإصدارُ حكم قضائي بتكفيره وتفريقه عن زوجته ابتهال يونس في منتصف التسعينات من القرن المنصرم، ولا أن يبقى الأستاذُ الجامعي منذ ذلك التاريخ منفيًّا في جامعات هولندا، وأن يستمر غيابُ كتبه عن رفوف مكتبة جامعة القاهرة، وأن تعجز أية جامعة عربية عن استقباله عضوًا في كادرها التدريسي أو محاضِرًا على مدرَّجاتها. لا، لم يكفِ هذا العار كلُّه للنيل من نصر حامد أبو زيد، الإنسان والمفكر، فخرجوا علينا في نهاية الشهر المنصرم بقرار جديد أصدره "مجمع البحوث الإسلامية" – وهو أعلى سلطة في الأزهر – يقضي بمنع تداول كتاب الخطاب والتأويل لأبو زيد في مصر ومصادرة ما وُزِّع من نُسَخِه في الأسواق.
نشرت مجلة المصور المصرية بتاريخ 27/11/2003 أن "مجمع البحوث الإسلامية" اجتمع في رئاسة مفتي الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي وناقش تقريرًا عن الكتاب وضعه عضو المجمع محمد عمارة، وأصدر قرارًا جاء فيه أن أبو زيد "طعن في ثابتين من ثوابت العقيدة الإسلامية، وهما التوحيد وحفظ القرآن الكريم، الأمر الذي يمنع تداوله لطعنه في صحيح العقيدة الإسلامية".
وقال عضو المجمع عبد المعطي البيومي، المعيَّن في مجلس الشعب المصري، لجريدة الحياة (27/11/2003) إن الأزهر "لا يصادر حرية الفكر أو الإبداع، وإنما يحمي ثوابت المجتمع من أي انحرافات فكرية تهدد عقيدة المجتمع وثقافته". وطالب السلطات بـ"تنفيذ كلِّ التوصيات التي يُصدِرُها المجمع في شأن مصادرة الكتب التي فيها انحرافات فكرية، وذلك حماية لشبابنا من الأفكار الدخيلة"، في إشارة منه إلى كون توصيات المجمع والأزهر في منع تداول الكتب لا تدخل حيِّز التنفيذ من دون حكم قضائي صادر عن المحاكم المصرية.
المضحك–المبكي في هذا الخبر الذي تناقلتْه وكالات الأنباء وأفردتْ له مجلة المصور المصرية وجريدة الحياة اللندنية مكان الصدارة، أنه يتجاهل ليس فقط سؤال نصر حامد أبو زيد عن رأيه في قرار منع تداول الكتاب، لكنه يتجاهل أيضًا – وهنا الطامة الكبرى! – مضمون الكتاب والموضوعات التي احتوتها دفتاه. فكتاب الخطاب والتأويل، الصادر في العام 2000 عن "المركز الثقافي العربي" (بيروت – الدار البيضاء)، يخص د. محمد عمارة، عضو مجمع البحوث الإسلامية وكاتب التقرير–الفضيحة، بمساحة واسعة من النقد. فهو يكرِّس فصلاً كاملاً، تحت عنوان "موقف عمارة من علي عبد الرازق: غلبة الإيديولوجي على المعرفي"، مخصَّصًا للنقد اللاذع والعميق لتهويمات د. محمد عمارة الفكرية في موقفه المتذبذب والمتبدل 180 درجة من كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم. كما أن أبو زيد يخصِّص جزءًا أساسيًا من مقدمة كتابه هذا لتحليل الأسلوب الخطابي الاستعراضي المتوشِّح بعباءة الدين الذي يلجأ إليه محمد عمارة في البرامج التلفزيونية. ويروي أبو زيد كيف كان هو أحد شهوده في برنامج "الاتجاه المعاكس" على قناة الجزيرة القَطَرية الذي جمعه إلى عمارة بتاريخ 31 كانون الأول 1996. يُضاف إلى هذا كلِّه أن الجزء الثاني من الفصل، المكرَّس لفكر زكي نجيب محمود في الكتاب، يخصِّصه أبو زيد للردِّ على تجنِّيات محمد عمارة على زكي نجيب محمود؛ وهو يحمل العنوان الفرعي الآتي: "مات الرجل وبدأت محاكمته".
وقبل الخوض في تفاصيل هذا الكتاب الذي جرَّ على صاحبه، ظلمًا وبهتانًا، تهمة الطعن بـ"ثابتين من ثوابت العقيدة الإسلامية، هما التوحيد وحفظ القرآن الكريم"، بحسب ما جاء في قرار الأزهر، يجدر التوقف مليًّا أمام العِبرة في أن يكون محمد عمارة هو رأس حربة المؤسَّسة الأزهرية في هذه المعركة–الفضيحة.
الوشاية
د. محمد عمارة ليس بالشيخ المعمَّم؛ وهو ينتمي إلى تلك الفئة من الباحثين في الفكر الإسلامي الذين بدأوا حياتهم بالترويج لما يسمُّونه "اليسار الإسلامي" وبتحقيق بعض الكتب النهضوية، قبل أن ينتقل إلى الموقع النقيض ويصبح من أشد المعادين لفكر النهضة التنويري ومن أهم المطالبين بعودة دولة الخلافة الإسلامية. محمد عمارة لا ينتمي إذًا إلى فئة رجال الدين، ويجمعه مع نصر حامد أبو زيد، مع حفظ المنزلة والمكانة، الانتماء إلى حقل الدراسات الإسلامية. وكان يمكن للرجل أن يحتكم إلى القلم والكلمة في صراع الأفكار الذي جمعه، منذ زمن طويل، مع نصر حامد أبو زيد، لكنه فضَّل أن يقتصَّ من زميله الأستاذ الجامعي الذي شرَّح أفكاره وبيَّن سقطاته، من طريق اللجوء إلى سلطة المؤسَّسة الدينية وجرِّ الأزهر وشيخه إلى محكمة تفتيش جديدة، أُريدَ لها أن تنال من أحد أهمِّ رموز الفكر التنويري في الدراسات الإسلامية. والسبب ليس لأنه "طعن في ثابتين من ثوابت العقيدة الإسلامية"، كما يدَّعون، ولكن لكونه طعن في الأمانة العلمية للدكتور محمد عمارة، وبيَّن، بالدلائل والشواهد النصية المستقاة من كتابات عمارة، انعدام الصدقية ومقدار التحريف في الاقتباسات التي لجأ إليها عمارة في هجومه على كلٍّ من الشيخ علي عبد الرازق وزكي نجيب محمود.
نحن أمام حالة مفجعة من الانهيار الفكري والأخلاقي: أستاذ جامعي يسوق زميلاً له إلى محكمة تفتيش أزهرية تدينه بطعن "صحيح العقيدة الإسلامية" – هذا في وقت لم يقم أبو زيد بشيء آخر إلا كشف الأكاذيب التي تحتويها كتابات محمد عمارة. وإذا وضعنا جانبًا السؤال المركزي المتعلق بأحقية الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية في تقرير أيٍّ من الكتب يحتوي "انحرافات فكرية"، وتاليًا يجب منعه "حماية لشبابنا من الأفكار الدخيلة"، على ما يذهب إليه العضو الآخر في المجمع د. عبد المعطي بيومي، فإن السؤال كيف يقبل الأزهر وشيخه أن يكون كاتب التقرير في حقِّ كتاب الخطاب والتأويل، هو نفسه، بأفكاره وشطحاته، موضوع الكتاب المُدان؟ وأية صدقية يمكن أن يحملها مثل هذا التقرير عندما يكون كاتبُه هو الخصم والحكم في الوقت نفسه؟
لقد سبق للأستاذ الجامعي عبد الصبور شاهين، في معركته الدنيوية البحتة لمنع ترقِّي نصر حامد أبو زيد، عدوِّه الفكري اللدود وزميله في الجامعة، إلى رتبة أستاذ، أن لجأ إلى الأسلوب نفسه، متَّهمًا أبحاث أبو زيد بالخروج على ثوابت الدين والعقيدة. والجميع يعرف كيف انتهت هذه المعركة، ليس فقط بتجميد ترقِّي أبو زيد في الجامعة وتكفير مجلسها له، ولكن أيضًا بانتقال المعركة من الجامعة إلى المحاكم المصرية التي حكمت عليه بالردة وبالتفريق عن زوجته.
اليوم، وبعد سبع سنوات من هذه الفضيحة، نحن أمام حالة مشابهة، يلجأ فيها أستاذ جامعي هو محمد عمارة إلى تصفية حسابات شخصية ودنيوية مع زميله أبو زيد، من خلال إقحام أعلى مؤسَّسة دينية في مصر في هذه المعركة الدنيوية بامتياز. وفي هذا ليس فقط إساءة إلى المكانة الدينية والروحية للأزهر وشيخه ومجمع بحوثه، ولكن فيه أيضًا تبيان واضح لحجم الرهانات الشخصية والمؤسَّساتية والاجتماعية التي تتلبَّس بعباءة الدين في سبيل تحقيق رهانات دنيوية بحتة.
الكتاب المُدان
لا يمكن فصل معركة الأزهر الجديدة مع كتاب الخطاب والتأويل عن سياق معركة منع أبو زيد من التدريس في الجامعة، التي بدأت في آذار من العام 1993 وانتهى أول فصولها بقرار أصدرته محكمة الأحوال الشخصية القاهرية في 14 حزيران 1995 بردة أبو زيد وبتفريقه عن زوجته، وأيَّدتْه محكمة النقض في 5 آب 1996.
المعركة إذًا لم تنتهِ فصولُها بعد. أما الكتاب المُدان فإن أبو زيد كتب معظم فصوله في زمن الاغتراب، بعد تموز 1995، وأقلها كَتَبَ قبل ذلك، ولكن دائمًا في سياق "حرب التكفير" التي بدأت ضده من داخل الجامعة. وبرغم النبرة السجالية التي تسود بعض مقاطع الكتاب فإن أبو زيد خصَّص معظم فصول كتابه لعلم "تحليل الخطاب"، نظريًّا وتطبيقيًّا، مبيِّنًا، من خلال أمثلة ملموسة، كيف تتبادل الخطاباتُ التأثيرَ والتأثُّرَ بعضها مع البعض الآخر. ويحدث ذلك "مهما تباعدت منطلقاتُها الفكرية وتناقضت آلياتُها التعبيرية والأسلوبية، ومهما اختلف نسقها السردي بين الوعظية الإنشائية في جانب والتوتر المعرفي في جانب آخر" (الخطاب والتأويل، ص5).
تتحرك فصول القسم الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان "المثقف العربي والسلطة" بين الخطاب التراثي وخطاب التنوير، وتعقد مقارنات ثرية بين نقيضين هما ابن رشد والغزالي، وتبيِّن علاقات التناصِّ والتأثير والتأثُّر المتبادل بين خطابَيْ هذين المفكرين. يعالج أبو زيد في هذا الجزء من الكتاب الخطاب التنويري لزكي نجيب محمود، ويبيِّن كيف تأثرتْ أدواتُه التعبيرية وجهازُه المفاهيمي ومقاربتُه التحليلية بأدوات خصومه وآلياتهم. ويعرِّج أبو زيد على المحاكمة التي أجراها محمد عمارة لفكر زكي نجيب محمود، ويبيِّن كيف أن همَّ عمارة الأول كان اغتيال زكي نجيب محمود فكريًّا بإخراجه من دائرة الإسلام، متوخيًا في ذلك اللغة الاتهامية، بعيدًا عن أية دقة علمية. يقول أبو زيد في هذا السياق: "هناك فارق بين النقد والاختلاف وبين الإدانة، ونزع صفة الإسلام عن المفكر لأنه ينتج فكرًا لا يتطابق مع ما نؤمن به من أفكار. لقد حاول الكاتب [عمارة] أن ينقد الوضعية المنطقية [لدى زكي نجيب محمود]، لكن نقده لها هو النقد العامي المبتذل، وليس النقد العلمي." (مرجع سابق، ص86)
والمفجع أن أبو زيد كتب في هذا الفصل سطورًا كان يجدر بها أن تكون الردَّ القاطع على كلِّ من يتهمه بالطعن بثابت التوحيد من العقيدة الإسلامية؛ ولكنهم لا يقرأون، أو هم لا يريدون أن يقرأوا. يقول أبو زيد: "حين نقول اختلاف العقائد فإنما المقصود اختلاف التصورات حول العقيدة. عقيدة التوحيد مثلاً كثرت التصورات حولها بين الفِرَق." (مرجع سابق، ص86) ويضيف أبو زيد الآتي: "أول شروط الحوار: التخلِّي عن تصور امتلاك الحقيقة والاستئثار بالحديث عن الإسلام. فكلنا مسلمون بداهة، وإسلامنا هو الأصل الذي لا يحتاج لبرهان." (مرجع سابق، ص87)
في الفصل الثالث يعرض أبو زيد لسعي عمارة إلى "تلويث خطاب النهضة" في انقلابه من إطار خطاب للاندماج في نمط خطاب آخر يعلن فيه توبته من الاحتفالية التي تَعامَل بها في الماضي مع كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم، ويحاول جاهدًا "أن يبرِّئ علي عبد الرازق من جريمة تأليف الكتاب ليلصقها – على طريقة شرلوك هولمز وأغاثا كريستي – بطه حسين". إن وصف أبو زيد لمنهج عمارة مع كتاب عبد الرازق بالأسلوب البوليسي ليس فيه شيء من المبالغة أو التجنِّي. فأبو زيد يبيِّن، بالأدلة القطعية، مقدار الأكاذيب والألاعيب التي لجأ إليها محمد عمارة في مسعاه لإثبات براءة علي عبد الرازق من الكتاب ونسبته إلى طه حسين. ونكتفي بإيراد أحد الأمثلة الفاقعة التي يقدمها أبو زيد دليلاً على نقص الأمانة الفكرية لمحمد عمارة في تناوله المزعوم لردَّة علي عبد الرازق عن كتاب الإسلام وأصول الحكم. فمحمد عمارة، في محاولته العابثة لتقويل علي عبد الرازق ما لم يقله، يجتزئ من نصِّ المحاضرة التي ألقاها الشيخ عبد الرازق في الجامعة الأمريكية في القاهرة في آذار 1932 العبارة الآتية: "الحكم بغير ما أنزل الله كفر صريح في القرآن." لكن، بالعودة إلى نصِّ المحاضرة، ينكشف – كما يبيِّن أبو زيد – تدليس عمارة، وهو "التدليس الذي يفضح سوء القصد والنية المبيَّتة لتلويث سمعة الشيخ وكتابه" (مرجع سابق، ص 95). فعبد الرازق يحاول في محاضرة "الدين وأثره في حضارة مصر الحديثة" أن يستعرض مظاهر التغير والتطور في الحياة المصرية، وخصوصًا بعد احتكاكها بالحضارة الأوروبية الحديثة. وفي هذا السياق تَرِدُ العبارة السابقة لوصف ما كانت عليه الحال في مصر قبل لقائها الأخير بالغرب. يقول الشيخ عبد الرازق: "جرت مصر منذ العصور الأولى على أن يكون الحكم فيها شرعيًّا، يرجع إلى أحكام الإسلام والأوضاع الإسلامية. وكان المصريون يفزعون من أن يحتكموا إلى غير قوانين الإسلام، لأن الحكم بغير ما أنزل الله كفر صريح في القرآن. ولكن القوانين قد أصبحت في مصر تؤخذ أحيانًا من قوانين أوروبا، ولا يرى المصريون حرجًا في أن يحتكموا إليها، ولا أن يخضعوا لها، أوافقتْ الفقه الإسلامي أم لم توافقه. ومن قبل ذلك استطاع الخديوي إسماعيل باشا أن يضرب على المصريين قانون نابوليون شريعةً لازمة ويأخذهم بأحكامها أخذًا. وما كان ذلك كلُّه إلا خضوعها لما أسلفنا من حكم الظروف الاجتماعية والتطورات التي نشأت مع الحضارة الجديدة والجيل الجديد."
يبيِّن أبو زيد في هذا الفصل، بأمثلة لا يتسع المجال لذكرها مجتمعة، مقدار الهزل الأكاديمي وانعدام الصدقية العلمية في تناول محمد عمارة لفكر علي عبد الرازق وكتابه الإسلام وأصول الحكم. وبدلاً من أن تكون براهين أبو زيد حجة تُقام على صدقية محمد عمارة الفكرية، قام هذا الأخير بتوريط الأزهر في معركة أرادها هو تصفيةً لحسابات شخصية تتلطَّى تحت عباءة الدين، في حين أرادها أبو زيد معركةً فكرية تخدم الحقيقة وتمنع الانتهازيين من استخدام الدين لمآربهم الشخصية.
في العودة إلى فصول الكتاب المُدان، بحثًا عن أيِّ دليل يثبت ما ذهب إليه الأزهر من طعن أبو زيد في ثوابت العقيدة الإسلامية، لا يجد القارئ إلا فكرًا عقلانيًّا يحاول، من داخل دائرة الإسلام، أن يطرح الأسئلة الصعبة المسكوت عنها في الخطاب الإسلامي التراثي والمعاصر. ففي الفصل الرابع يبيِّن أبو زيد "الترضيات الضمنية" التي يلجأ إليها محمد أركون حفاظًا على موقع خطابه داخل الثقافة والفكر الإسلامي.
أما القسم الثاني من الكتاب فمخصَّص بأكمله لدراسة كيف أن معظم تيارات الفكر العربي لا تزال مسجونة داخل النفق المظلم نفسه الذي حصر سؤال "النهضة" في بُعْد "الدين" وحده. وينتهي هذا الفصل بحوار شائق وموسَّع أجراه الناشر مع أبو زيد يتناول فيه نشأته ودخوله الجامعة والمفكرين الذين أثَّروا في تكوين وعيه، متحدثًا بإسهاب عن محنته بعدما اضطر لمغادرة مصر وعن المعالم الجديدة في مشروعه الفكري.
حتى أنت يا بروتوس!
تسعة أعوام مضت على بداية محنة ابتهال يونس ونصر حامد أبو زيد، وشبح الرجل وفكرُه لا يزالان يُقلِقان الفكر الظَّلامي ويقضَّان مضاجعه. تسعة أعوام والثقافة العربية لا تزال عاجزة عن إعادة نصر حامد أبو زيد إلى عالمه العربي.
كنت أظن، لمدة طويلة، أن موقف السلطة السياسية الملتبس وتقاعس المثقفين العرب وعجزهم عن التضامن الفعلي والمؤثر مع أبو زيد من أهم الأسباب التي تسمح لهذا الوضع–الفاجعة بالاستمرار. لكن الصدفة قادتْني، وأنا أعدُّ هذا المقال، إلى مقابلة كان أجراها قبل شهور معاذ الخطيب مع الباحث اللبناني رضوان السيد في أثناء انعقاد مؤتمر الجنادرية تحت رعاية الأسرة المالكة في العربية السعودية ونَشَرَها موقع الملتقى الفكري للإبداع على الإنترنت. ما قاله الباحث رضوان السيد – الذي يدَّعي التنوير – في هذه المقابلة في حقِّ نصر حامد أبو زيد يبيِّن لي أن أكثر الطعنات إيلامًا في ظهر الأستاذ المصري لم تأتِه من الإسلاميين، بل من مدَّعي الانفتاح والتضامن الصوري معه – هذا في وقت لا يتركون مناسبة من دون أن ينالوا منه بسهامهم المسمومة، محاولين بكلِّ الوسائل النأيَ بأنفسهم عنه، وخصوصًا عندما تكون علاقتهم مع الثقافة النفطية هي على المحك. يقول رضوان السيد عن نصر حامد أبو زيد الآتي، مقارِنًا إياه بمحمد شحرور: "مسكين، إنه رجل طيب باحث عن الشهرة، فوقع في هذه الأخطاء الفظيعة، فصار يشبه شحرور، ولكن من دون أن يقصد. شحرور قاصد، شحرور يعرف أن ما يفعله إجرام وتخريب للدين، يفعل ذلك بوعي. أما نصر فقاده إلى ذلك الجدال وحبُّ الشهرة، وهو عنده ثقافة ماركسية سطحية. وشحرور يعرف من الماركسية أكثر بكثير مما يعرفه نصر حامد أبو زيد. فهو [أي نصر] في الأصل ناقد أدبي، يعرف العربية جيدًا، ويعرف أن هذه – وإن كانت قراءة تاريخية للنص – لا توصل إلى النتائج التي يصل [هو] إليها. وأكثر طفولية من قراءته للقرآن قراءتُه لنصِّ الشافعي. فالنتائج التي يصل إليها مضحكة! فهو ماركسواني سطحي لأنه رجل طيب اشتبك مع الإسلاميين، جماعة شركات الأموال، مطلع التسعينات وهو يساري، فكتب مقالة طويلة في نقد الخطاب الديني، نشرتُها له أنا، فتنبَّهوا إليه، وكان كَتَبَ مفهوم النص – وهو كتاب ليس جيدًا – وكتب أشياء أخرى تتعلق بالنصِّ الوسيط. حتى دراسته عن الإمام الشافعي لم ينتبه إليها أحد. ولما هاجم علنًا خطاب سيد قطب والقرضاوي وغيرهما، تنبَّهوا إليه، فأعادوا قراءة كتبه السابقة، فأدى به الأمر إلى أن يصبح مثل سلمان رشدي مطارَدًا. هو رجل طيب لا يمكن حسبانه لا على أمثال شحرور ولا على أمثال أركون. ثم إن دراساته ليست دراسات محترمة، من حيث قيمتُها في فقه القرآن، أو في فهم القرآن."
لقد سبق لرضوان السيد أن دافع بشكل ملتبس قبل سنوات عن قضية أبو زيد عندما كان هذا الأخير ضيف برنامج حوار العمر في تلفزيون الـLBC. ولكن، عندما يكون رضوان السيد في حضرة القائمين على مهرجان الجنادرية لا يجد شيئًا آخر سوى هذه العبارات المتحامِلة ليصف بها مَن دفع أفدح الأثمان في سبيل حرية الكلمة وعقلانية الفكر.
لا. ليس نصر حامد أبو زيد بالمسكين، ولا حتى رضوان السيد! المسكين هو هذه الثقافة العربية التي لا تزال تُقتَل كلَّ يوم على مذبح ثقافة النفط.
*** *** ***
عن النهار، الأحد 14 كانون الأول 2003